فصل: تفسير الآيات رقم (99- 100)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


الجزء التاسع

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 98‏]‏

‏{‏يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏94‏)‏ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏95‏)‏ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏96‏)‏ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏97‏)‏ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏98‏)‏‏}‏

ثم شرع يخبر عن أشياء تقع منهم عند الرجوع دلالة على أن هذا كلامه وأنه عالم بالمغيبات كليها وجزئيها، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فقال مبيناً لعدم علمهم‏:‏ ‏{‏يعتذرون‏}‏ أي يثبتون الأعذار لأنفسهم‏:‏ وأشار إلى بعدهم بالقلوب بقوله‏:‏ ‏{‏إليكم‏}‏ أي عن التخلف ‏{‏إذا رجعتم إليهم‏}‏ أي من هذه الغزوة، كأنه قيل‏:‏ فماذا يقال في جوابهم‏؟‏ فقال للرأس الذي لا تأخذه في الله لومة لائم‏:‏ ‏{‏قل لا تعتذروا‏}‏ أي فإن أعذاركم كاذبة، ولذلك علل النهي بقوله‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لكم‏}‏ أي نصدقكم في شيء منها، ثم علل عدم تصديقهم بما أوجب لهم القطع بذلك فقال‏:‏ ‏{‏من نبأنا الله‏}‏ أي أعلمنا الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء إعلاماً جليلاً ‏{‏من أخباركم‏}‏ أي التي ظننتم جهلاً بالله أنها تخفى فقد علمناها؛ ثم هددهم بقوله‏:‏ ‏{‏وسيرى الله‏}‏ أي لأنه عالم بكل شيء وإن دق قادر على كل شيء ‏{‏عملكم‏}‏ أي بعد ذلك أتتبينون أم تثبتون على حالكم هذا الخبيث كما رأى الذي قبل ‏{‏ورسوله‏}‏ أي بما يعلمه به سبحانه وحياً أو تفرساً، ولما كان الكلام في المنافقين، فكانت الرؤية لنفاقهم الذي يجتهدون في إخفائه، وكان المؤمنون لا اطلاع لجميعهم عليهم، لم يذكرهم بخلاف من يأتي بعد فإنهم مؤمنون‏.‏

ولما كان هذا ربما أوهمهم أنه لا يعلم إلا ما أوقعوه بالفعل، نفى ذلك بإظهار وصفه في موضع الإضمار مهدداً بقوله مشيراً بأداة التراخي إلى استبعادهم لقيامهم إلى معادهم‏:‏ ‏{‏ثم تردون‏}‏ أي براد قاهر لا تقدرون على دفاعه بعد استيفاء آجالكم بالموت وإن طالت ثم البعث ‏{‏إلى عالم الغيب‏}‏ وهو ما غاب عن الخلق ‏{‏والشهادة‏}‏ وهو ما اطلع عليه أحد منهم‏.‏ فصار بحيث يطلعون عليه وهذا ترجمة عن الذي يعلم الشيء قبل كونه ما يعلم بعد كونه ‏{‏فينبئكم‏}‏ أي يخبركم إخباراً عظيماً جليلاً مستوعباً ‏{‏بما كنتم‏}‏ أي بجبلاتكم ‏{‏تعملون*‏}‏ أي مما أبرزتموه إلى الخارج ومما كان في جبلاتكم، ولو تأخرتم لبرز، وهو تهديد عظيم، ووقع ترتيبهم للاعتذار على الأسهل فالأسهل على ثلاث مراتب‏:‏ الأولى مطلق الاعتذار وقد مضى ما فيها؛ الثانية تأكيد ذلك بالحلف للإعراض عنهم فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏سيحلفون بالله‏}‏ أي الذي لا أعظم منه ‏{‏لكم إذا انقلبتم إليهم‏}‏ أي جهد إيمانهم أنهم كانوا معذورين في التخلف كذباً منهم إرادة أن يقلبوا قلوبكم عما اعتقدتم فيهم ‏{‏لتعرضوا عنهم‏}‏ أي إعراض الصفح عن معاتبتهم ‏{‏فأعرضوا عنهم‏}‏ إعراض المقت؛ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» ثم علل وجوب الإعراض بقوله ‏{‏إنهم رجس‏}‏ أي لا يطهرهم العتاب فهو عبث‏.‏

ولما كان من المقرر أنه لا بد لهم من جزاء، وأن النفس تتشوف إلى معرفته، قال‏:‏ ‏{‏ومأواهم‏}‏ أي في الآخرة ‏{‏جهنم جزاء‏}‏ أي لأجل جزائهم ‏{‏بما كانوا يكسبون*‏}‏ أي فلا تتكلفوا لهم جزاء غير ذلك بتوبيخ ولا غيره؛ المرتبة؛ الثالثة الحلف للرضى عنهم فقال‏:‏ ‏{‏يحلفون لكم‏}‏ أي مجتهدين في الحلف بمن تقدم أنهم يحلفون به وهو الله ‏{‏لترضوا عنهم‏}‏ خوفاً من غائلة غضبكم ‏{‏فإن ترضوا عنهم‏}‏ أي لمجرد أيمانهم المبني على عدم إيمانهم ‏{‏فإن الله‏}‏ أي الذي له الغنى المطلق ‏{‏لا يرضى‏}‏ عنهم، هكذا كان الأصل ولكنه قال‏:‏ ‏{‏عن القوم الفاسقين*‏}‏ إشارة إلى تعليق الحكم بالوصف وتعميماً لكل من اتصف بذلك، والمعنى أنه لا ينفعهم رضاكم وتكونون به مخالفين الله، فهو في الحقيقة نهي للمؤمنين عن الرضى عنهم، أبرز في هذا الأسلوب العجيب المرقص، وفي ذلك رد على من يتوهم أن رضى المؤمنين لو رضوا عنهم يقتضي رضى الله، فإن ذلك رد نزعة مما يفعل الأحبار والرهبان في رضاهم وغضبهم وتحليلهم وتحريمهم الذي يعتقد أتباعهم أنه عن الله تعالى‏.‏

ولما ترتب سبحانه الاستئذان في العقود والرضى بما فيه من الدناءة على عدم الفقه تارة والعلم أخرى وختم بصنف الأعراب، بين أن الأعراب أولى بذلك لكونهم أعرق في هذا الوصف وأجرأ على الفسق لبعدهم عن معدن العلم وصرفهم أفكارهم في غير ذلك من أنواع المخازي لتحصيل المال الذي كلما داروا عليه طار عنهم فأبعد‏.‏ فهم لا يزالون في همه قد شغلهم ذلك عن كل هم وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الأعراب‏}‏ أي أهل البدو ‏{‏أشد‏}‏ أي من أهل المدر ‏{‏كفراً ونفاقاً‏}‏ لبعدهم عن دار الهجرة ومعدن العلم وجفائهم بأن مرائي قلوبهم لم تصقل بأنوار الكتاب والسنة ‏{‏وأجدر أن‏}‏ أي وأحق بأن ‏{‏لا يعلموا‏}‏ ولما كان الإحجام أصعب من الإقدام، وأطراف الأشياء المختلطة في غاية الإلباس، قال‏:‏ ‏{‏حدود ما أنزل الله‏}‏ أي المحيط علماً وحكمة بكل شيء ‏{‏على رسوله‏}‏ أي الذي أعلم الخلق من القرآن والشرائع والأحكام لعدم إقبالهم عليه شغلاً بغيره فإن الله يعلم ذلك منهم ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏عليم‏}‏ أي بالغ العلم بكل شيء ‏{‏حكيم*‏}‏ أي بالغ الحكمة فهو يضع الأشياء في أتم محالها‏.‏

ولما أثبت هذا الوصف لهذا الصنف بين أن أفراده انقسموا إلى من ثبت على ما هو الأليق بحالهم، وقسم نزع إلى ما هو الأليق بأهل المدر، كما انقسم أهل المدر إلى مثل ذلك، وبدأ بالخبيث لأنه الأصل فيهم فقال‏:‏ ‏{‏ومن الأعراب‏}‏ أي المذكورين ‏{‏من يتخذ‏}‏ أي يتكلف غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من الأريحية والهمم العلية بأن يعد ‏{‏ما ينفق مغرماً‏}‏ أي فلا يبذله إلا كرهاً ولا يرى له فائدة أخروية بل يراه مثل الصنائع بالنهب ونحوه ‏{‏ويتربص‏}‏ أي يكلف نفسه الربص، وهو أن يسكن ويصبر وينتظر ‏{‏بكم الدوائر‏}‏ أي الدواهي التي تدور بصاحبها فلا يتخلص منها، وذلك ليستريح من الإنفاق وغيره مما ألزمه به الدين‏.‏

ولما تربصوا هذا التربص، دعا عليهم بمثل ما تربصوا فقال‏:‏ ‏{‏عليهم دائرة السوء‏}‏ أي دائماً لا تنفك إما بإذلال الإسلام وإما بعذاب الاصطلام، فهم فيما أرادوه بكم على الدوام، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم السين على أن معناه الشر والضر، وقراءة الباقين بالفتح على أنه مصدر، فهو ذم للدائرة‏.‏

ولما كان الانتقام من الأعداء وإيقاع البأس بهم لا يتوقف من القادر غالباً إلا على سماع أخبارهم والعلم بها، جرت سنته تعالى في ختم مثل بقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏سميع‏}‏ يسمع ما يقولون ‏{‏عليم*‏}‏ أي فهو يعلم ما يضمرون عطفاً على نحو أن يقال‏:‏ فالله على كل شيء قدير، ونحوه قوله ‏{‏إنني معكما أسمع وأرى‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏99‏)‏ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏

ولما افتتح الآية الثانية بقوله‏:‏ ‏{‏ومن الأعراب من يؤمن‏}‏ أي لا يزال يجدد إيمانه آثار الدين ‏{‏بالله واليوم الآخر‏}‏ علم أن القسم الأول غير مؤمن بذلك، وإنما وقع منهم الإقرار باللسان من غير إذعان، والإيمان هو الأصل الذي يترتب عليه الإنفاق عن طيب نفس لما يرجى من ثوابه في اليوم الآخر الذي لولا هو انتفت الحكمة من هذا الخلق على هذا الترتيب‏:‏ ثم عطف عليه ما يثمره الإيمان فقال‏:‏ ‏{‏ويتخذ‏}‏ أي يحث نفسه ويجاهدها إن عرضت له الوساوس الشيطانية على أن يعد ‏{‏ما ينفق‏}‏ أي فيما أمر الله به ‏{‏قربات‏}‏ جمع قربة لما تقرب إليه سبحانه ‏{‏عند الله‏}‏ أي الذي لا أشرف من القرب منه لأنه الملك الأعظم ‏{‏وصلوات‏}‏ أي دعوات ‏{‏الرسول‏}‏ أي الذي وظيفته التبليغ فهو لا يقول لهم شيئاً إلا عن الله، وأطلق القربة والصلاة على سببها‏.‏

ولما أخبر عن أفعالهم، أخبر عن عاقبتهم ومآلهم؛ قال مستأنفاً محققاً لرجائهم ترغيباً في الصدقة بأبلغ تأكيد لما لأعدائهم من التكذيب‏:‏ ‏{‏ألا إنها‏}‏ أي نفقاتهم ‏{‏قربة لهم‏}‏ أي كما أرادوا؛ ثم بين ثمرة كونها قربة بقوله‏:‏ ‏{‏سيدخلهم الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال بوعد لا خلف فيه ‏{‏في رحمته‏}‏ أي إكرامه فتكون محيطة بهم ثم علل ذلك بقوله معبراً بالاسم الأعظم تنبيهاً على أنه لا يسع الإنسان إلا العفو وإن أعظم الاجتهاد‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي الذي لا يقدر أحد على أن يقدره حق قدره ‏{‏غفور‏}‏ أي بليغ الستر لقبائح من تاب ‏{‏رحيم*‏}‏ أي بليغ الإكرام، ذلك وصف له ثابت، يجلله كل من يستأهله‏.‏

ولما ذكر القسم الصالح منهم وكانوا متفاوتين فمنهم السابق وأكثرهم التابع اللاحق، أتبعه السابقين على وجه شامل حاصر لصنفي البادي والحاضر إشارة إلى أنه- وإن أجره- أصله فقد قدمه وصفه بحيث ساوى أهل الكمال في مطلق الانخراط في ملكهم والفوز بدرجتهم لإحسانه في اتباعهم ترغيباً لأهل القدرة والرحمة في اتباع أهل الرضوان والنعمة فقال‏:‏ ‏{‏والسابقون‏}‏ ولما دل على سبقهم بالعلو في مراتبه دل على قديم دخولهم فيه فقال‏:‏ ‏{‏الأولون‏}‏ أي إلى هذا الدين القيم ‏{‏من المهاجرين‏}‏ أي لدار الكفر فضلاً عن أهلها ‏{‏والأنصار‏}‏ أي الذين آووا ونصروا ‏{‏والذين اتبعوهم‏}‏ أي الفريقين ‏{‏بإحسان‏}‏ أي في اتباعهم فلم يحولوا عن شيء من طريقهم ‏{‏رضي الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏عنهم‏}‏ أي بأفعالهم هذه التي هي وفق ما أمر به ‏{‏ورضوا عنه‏}‏ أي بما أتاهم عنه من البشرى وقذف في قلوبهم من النور بلطيف الوعظ والذكرى ‏{‏وأعد لهم‏}‏ أي جزاء على فعلهم ‏{‏جنات تجري‏}‏ ونبه على عموم ريّها وكثرة مائها بنزع الجار على قراءة الجماعة فقال‏:‏ ‏{‏تحتها الأنهار‏}‏ أي هي كثيرة المياه‏.‏ فكل موضع أردته نبع منه ماء فجرى منه نهر؛ ولما كان المقصود من الماء إنما هو السهولة في إنباطه بقربه ويسر جريه وانبساطه أثبته ابن كثير دلالة على ذلك كسائر المواضع، ولعل تخصيص هذا الموضع بالخلاف لأنه يخص هذه الأمة، فلعلها تخص بجنة هي أعظم الجنان رياً وحسناً وزياً‏.‏

ولما كان أعظم العيوب الانقطاع، نفاه بقوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ وأكد المراد من الخلود بقوله‏:‏ ‏{‏أبداً‏}‏ ثم استأنف مدح هذا الذي أعده لهم بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العالي المكانة خاصة ‏{‏الفوز العظيم*‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 104‏]‏

‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ‏(‏101‏)‏ وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏102‏)‏ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏103‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏‏}‏

ولما استوفى الأقسام الأربعة‏:‏ قسمي الحضر وقسمي البدو ثم خلط بين قسمين منهم تشريفاً للسابق وترغيباً للاحق، خلط بين الجميع على وجه آخر ثم ذكر منهم فرقاً منهم من نجز الحكم بجزائه بإصرار أو متاب‏.‏ ومنهم من أخر أمره إلى يوم الحساب، وابتدأ الأقسام بالمستور عن غير علمه ليعلم أهل ذلك القسم أنه سبحانه عالم بالخفايا فلا يزالوا أذلاء خوفاً مما هددهم به فقال مصرحاً بما لم يتقدم التصريح به من نفاقهم‏:‏ ‏{‏وممن حولكم‏}‏ أي حول بلدكم المدينة ‏{‏من الأعراب‏}‏ أي الذين قدمنا أنهم أشد كفراً لما لهم من الجفاء ‏{‏منافقون‏}‏ أي راسخون في النفاق، وكأنه قدمهم لجلافتهم وعتوهم، وأتبعهم من هو أصنع منهم في النفاق فقال‏:‏ ‏{‏ومن أهل المدينة‏}‏ أي منافقون أيضاً؛ ثم بين أنهم لا يتوبون بوصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏مردوا‏}‏ أي صُلبوا وداموا وعتوا وعسوا وعصوا وصار لهم به دربة عظيمة وضراوة حتى ذلت لهم فيه جميع أعضائهم الظاهرة والباطنة وصار لهم خلقاً ‏{‏على النفاق‏}‏ أي استعلوا على هذا الوصف بحيث صاروا في غاية المكنة منه؛ ثم بين مهارتهم فيه بقوله‏:‏ ‏{‏لا تعلمهم‏}‏ أي بأعيانهم مع ما لك من عظيم الفطنة وصدق الفراسة لفرط توقيهم وتحامي ما يشكل من أمره؛ ثم هددهم وبين خسارتهم بقوله‏:‏ ‏{‏نحن‏}‏ أي خاصة ‏{‏نعلمهم‏}‏ ثم استأنف جزاءهم بقوله‏:‏ ‏{‏سنعذبهم‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه ‏{‏مرتين‏}‏ أي إحداهما برجوعك سالماً وشفوف أمرك وعلو شأنه وضخامة أركانه وعز سلطانه وظهور برهانه، فإنهم قطعوا لغباوتهم وجلافتهم وقساوتهم كما أشرت إليه بقولي ‏{‏ويتربص بكم الدوائر‏}‏- أنك لا ترجع هذه المرة من هذه السفرة لما يعرفونه من ثباتك للأقران، وإقدامك على الليوث الشجعان، واقتحامك للأهوال، إذا ضاق المجال، ونكص الضراغمة الأبطال، ومن عظمة الروم وقوتهم وتمكنهم وكثرتهم، وغاب عن الأغبياء وخفي عن الأشقياء الأغنياء أن الله الذي خلقهم أعظم منهم وأكبر، وجنوده أقوى من جنودهم وأكثر؛ والثانية بعد وفاتك بقهر أهل لردة ومحقهم ورجوع ما أصلته بخليفتك الصديق رضي الله عنه إلى ما كان عليه في أيامك من الظهور وانتشار الضياء والنور والحكم على من خالفه بالويل والثبور، وسيأتي أنه يمكن أن تكون المرة الثانية إخراب مسجد الضرار والإخبار بما أضمروا في شأنه من خفي الأسرار ‏{‏ثم يردون‏}‏ أي بعد الموت ‏{‏إلى عذاب عظيم*‏}‏ أي لا يعلم عظمة حق علمه إلا الله تعالى، وهو العذاب الأكبر الدائم الذي لا ينفك أصلاً‏.‏

ولما ذكر هذا القسم المارد الجافي، ثنى بمقابلة اللين الصافي، وهي الفرقة التي نجز المتاب عليها والنظر بعين الرحمة إليها فقال‏:‏ ‏{‏وآخرون‏}‏ أي ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة آخرون ‏{‏اعترفوا بذنوبهم‏}‏ أي كلفوا أنفسهم ذكرها توبة منهم ندماً وإقلاعاً وعزماً ولم يفزعوا إلى المعاذير الكاذبة وهو المقتصدون‏.‏

ولما كان الخلط جمعاً في امتزاج، كان بمجرد ذكره يفهم أن المخلوط امتزج بغيره، فالإتيان بالواو في ‏{‏آخر‏}‏ يفهم أن المعنى‏:‏ ‏{‏خلطوا عملاً صالحاً‏}‏ بسيئ ‏{‏وآخر سيئاً‏}‏ بصالح، فهو من ألطف شاهد لنوع الاحتباك، ولعل التعبير بما أفهم ذلك إشارة إلى تساوي العملين وأنه ليس أحدهما بأولى أحدهما بأولى من الآخر أن يكون أصلاً، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أناس رآهم في المنام شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح كما رواه البخاري في التفسير عن سمرة رضي الله عنه ثم أوجب تحقيق توبتهم الملزومة للاعتراف بقبولها بقوله‏:‏ ‏{‏عسى الله‏}‏ أي بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال ‏{‏أن يتوب عليهم‏}‏ فإن ‏{‏عسى‏}‏ منه سبحانه وتعالى واجبه لأن هذا دأب الملوك ولعل التعبير بها يفيد- مع الإيذان بأنه لا يجب عليه لأحد شيء وأن كل إحسان يفعله فإنما هو على سبيل الفضل إشارة إلى أنهم صاروا كغيرهم من خلص المؤمنين غير المعصومين في مواقعة التقصير وتوقع الرحمة من الله بالرجوع بهم إلى المراقبة، فكما أن أولئك معدودون في حزب الله مع هذا التقصير المرجو له العفو فكذلك هؤلاء؛ ثم علل فعله بهم مرجياً للمزيد بقولع‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي ذا الجلال والإكرام ‏{‏غفور رحيم*‏}‏ أي لم يزل موصوفاً بقبول المعرض إذا أقبل وإبدال سئيه بحسن فضلاً منه وإكراماً؛ روى البخاري في صحيحه في التفسير عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا‏:‏ «أتاني الللية آتيان فابتعثاني فانتهيا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم‏:‏ اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة، قالا لي‏:‏ هذه جنة عدن، وهذاك منزلك، قالا‏:‏ أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عفا الله عنهم»‏.‏

ولما كان من شأن الرضوان قبول القربان، أمره صلى الله عليه وسلم تطهيراً لهم وتطييباً لقلوبهم بقوله‏:‏ ‏{‏خذ‏}‏ ورحمهم بالتبعيض فقال‏:‏ ‏{‏من أموالهم صدقة‏}‏ أي تطيب أنفسهم بإخراجها ‏{‏تطهرهم‏}‏ أي هي من ذنوبهم وتجري بهم مجرى الكفارة ‏{‏وتزكيهم‏}‏ أي أنت تزيدهم وتنميهم ‏{‏بها‏}‏ بتكثير حسناتهم ‏{‏وصل‏}‏ أي اعطف ‏{‏عليهم‏}‏ وأظهر شرفهم بدعائك لهم؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن صلواتك‏}‏ أي دعواتك التي تصلهم بها فتكون موصلة لهم إلى الله ‏{‏سكن لهم‏}‏ أي تطمئن بها قلوبهم بعد قلق الخوف من عاقبة الذنب لما يعلمون من أن القبول لا يكون إلا ممن حصل له الرضى عنهم ومن أن الله سمع قولك إجابة لك ويعلم صدقك في صلاحهم ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بكل شيء ‏{‏سميع عليم*‏}‏ أي لكل ما يمكن أن يسمع وما يمكن أن يعلم منك ومنهم ومن غيركم، فهو جدير بالإجابة والإثابة، وذلك أن هذا الصنف لما اشتد ندمهم على التخلف أوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فسأل عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم فقيل‏:‏ ندموا على التخلف عنك فحلفوا‏:‏ لا يطلقهم إلا أنت، فقال‏:‏ وأنا أطلقهم حتى أومر بذلك، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات فقالوا‏:‏ يارسول الله‏!‏ هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها‏!‏ فقال‏:‏ ما أمرت بذلك، فلما أنزل الله هذه الآية أخذ الثلث فتصدق به‏.‏

ولما ساق توبتهم سبحانه في حيز ‏{‏عسى‏}‏، وكان الأصل فيها الترجية في المحبوب والإشفاق في المكروه، وأمر سبحانه بالأخذ من أموالهم لذلك، وكان إخراج المال شديداً على النفوس لا سيما في ذلك الزمان، كان ربما استوقف الشيطان من لم يرسخ قدمه في الإيمان عن التوبة وما يترتب عليها من الصدقة لعدم الجزم بأنها تقبل، فأتبع ذلك سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا‏}‏ أي المعترفون بالذنوب حتى تسمح أنفسهم بالصدقة أو غيرهم حتى يرغبوا في التوبة والصدقة ‏{‏أن الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏يقبل‏}‏ أي من شأنه أن يقبل ‏{‏التوبة‏}‏ تجاوزاً ‏{‏عن عباده‏}‏ أي التائبين المخلصين ‏{‏ويأخذ‏}‏ أي يقبل قبول الآخذ لنفسه ‏{‏الصدقات‏}‏ أي ممن يتقرب بها إليه بنية خالصة ‏{‏وأن الله‏}‏ أي المحيط بصفتي الجلال والإكرام ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏التواب الرحيم*‏}‏ أي لم يزل التجاوز والإكرام من شأنه وصفته، وفي ذلك إنكار على غيرهم من المختلفين في كونهم لم يفعلوا مثل فعلهم من الندم الحامل على أن يعذبوا أنفسهم بالإيثاق في السواري ويقربوا بعض أموالهم كما فعل هؤلاء أو نحو ذلك مما يدل على الاعتراف والندم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 108‏]‏

‏{‏وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏ وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏106‏)‏ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏107‏)‏ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

ولما أمره من تطهيرهم بما يعيدهم إلى ما كانوا عليه قبل الذنب، عطف على قوله ‏{‏خذ‏}‏ قوله تحذيراً لهم من مثل ما وقعوا فيه‏:‏ ‏{‏وقل اعملوا‏}‏ أي بعد طهارتكم ‏{‏فسيرى الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏عملكم‏}‏ أي بما له من إحاطة العلم والقدرة فاعملوا عمل من يعلم أنه بعين الله ‏{‏ورسوله‏}‏ أي بإعلام الله له‏.‏ ولما كان هذا القسم من المؤمنين فكانت أعمالهم لاخفاء فيها، قال ‏{‏والمؤمنون‏}‏ فزينوا أعمالكم جهدكم وأخلصوا، وفي الأحاديث «لو أن رجلاً عمل في صخرة لا باب لها لأظهر الله علمه للناس كائناً ما كان»‏.‏

ولما كان هذا السياق للمؤمنين حذف منه «ثم» لكنه لما كان للمذنبين، أكد بالسين فقال‏:‏ ‏{‏وستردون‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه ‏{‏إلى عالم الغيب والشهادة‏}‏ أي بعد الموت والبعث ‏{‏فينبئكم‏}‏ أي بعلمه بكل شيء ‏{‏بما كنتم تعملون*‏}‏ أي ما أظهرتم عمله وما كان في غرائزكم، فلو تأخرتم تظهرتم، يجاريكم على حسنة ويزيد من فضله، وعلى سيئة عدلاً إن شاء ولا يظلم مثقال ذرة‏.‏

ولما ذكر القسمين المنجز عذابهم ومثابهم، ذكر المؤخر أمرهم وهو القسم الظالم لنفسه في الذي بدأ به في سورة فاطر سورة الحشر الآخر، ولا يبعد أن تكون هذه سورة الحشر الأول لأنه صلى الله عليه وسلم ساق الناس إلى أرض المحشر فقال‏:‏ ‏{‏وآخرون‏}‏ أي ومنهم آخرون ‏{‏مرجون‏}‏ أي مؤخرون بين الرجاء والخوف ‏{‏لأمر الله‏}‏ أي لما يأمر به فيهم الملك الأعظم الذي له الأمر كله لا يدرون أيعذبون أم يرحمون؛ وقدم قوله-‏:‏ ‏{‏إما يعذبهم‏}‏ إن أصروا- تخويفاً لهم حملاً على المبادرة إلى التوبة وتصفيتها والإخلاص فيها وحثاً على أن يكون الخوف ما دام الإنسان صحيحاً أغلب وثنى بقوله‏:‏ ‏{‏وإما يتوب عليهم‏}‏ أي إن تابوا ترجية لهم وترقيقاً لقلوبهم بالتذكير بمنزل الأُنس الذي أخرجوا أنفسهم منه ومنعوها من حلوله وطيب مستقره ومقيله وحليّ أوقاته وعليّ مقاماته وشهيّ أقواته‏.‏

ولما كان ربما قال قائل‏:‏ ما فائدة التأخير وما المانع من التنجيز‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏عليم حكيم*‏}‏ ترهيباً وترغيباً وتبعيداً وتقريباً واحتراساً مما قد يوهمه الترديد من الشك وتدريباً، وقراءة غفور رحيم للزيادة في الترجية‏.‏

ولما ذكر الذين أقامهم في مقام الخطر أتبعه تعيين طائفة من القسم الأول المستور الموصوف بالمرود، فألحق بهم الضرر فقال‏:‏ ‏{‏والذين‏}‏ وهو معطوف في قراءة من أثبت الواو على قوله ‏{‏وآخرون‏}‏ وخبره على ما يليق بالقصة‏:‏ منافقون ماردون، وأما على قراءة المدنيين وابن عامر بحذفها فيكون على تقدير سؤال سائل، وذلك أنه لما قال تعالى ‏{‏لا تعلمهم نحن نعلمهم‏}‏ تشوفت النفس إلى الإعلام بهم، فلما قال ‏{‏وآخرون اعترفوا بذنوبهم‏}‏ اشتغل السامع بتفهمه، وربما ظن أنه يأتي في آخر الكلام من تسميتهم ما يغنيه عن السؤال، فلما إنتقل بقوله ‏{‏وآخرون مرجون‏}‏ إلى قسم آخر، وختم الآية بصفتي العلم والحكمة ليعلم أن الترديد للتقسيم وأنه إن كان شك فهو بالنسبة إلى العباد وأما الله تعالى فمنزه عنه فذكر السامع بالصفتين ما كان دار في خلده ومال إليه قلبه من الإعلام بالماردين على النفاق، فاشتد تشوفه إليه فكان كأنه قال‏:‏ منْ منَ الماردين منهم‏؟‏ فقال تعالى الذين ‏{‏اتخذوا مسجداً‏}‏ أي من الماردين وهم من أعظمهم مهارة في النفاق وإخفاء الكيد والشقاق لأنهم توصلوا إلى ذلك بأن كلفوا أنفسهم الأخذ لأعظم عرى الدين مع المنازعة للفطرة الأولى والحذر من أن يفضحوا، فكان ختام هذه الآية من بديع الختام فإن احتراس عما يتوهم فيما قلبه ودليل على ما بعده، ولذلك ختم قصتهم أيضاً بصفتي العلم والحكمة، ولاح من هذا أن قوله ‏{‏سنعذبهم مرتين‏}‏ يمكن أن يراد به‏:‏ مرة برجوعك، ومرة بإخرابك مسجدهم وتفريقك لشملهم بعد هتك سرائرهم بكشف ضمائرهم، وبَيَّنَ سبحانه علة اتخاذهم بقوله‏:‏ ‏{‏ضراراً‏}‏ أي لأهل مسجد قباء أو لحزب الله عامة ‏{‏وكفراً‏}‏ أي بالله لاتخاذ دينه هزؤاً ‏{‏وتفريقاً‏}‏ أي مما يبيتونه من المكايد باستجلابهم لبعض من يخدعونه من المؤمنين ويطمعون فيه ليأتي مسجدهم ويترك المسجد المؤسس على التقوى ‏{‏بين المؤمنين‏}‏ أي الراسخين في الإيمان بما جاء من عند الله، لأنهم كانوا يجتمعون في مسجد قباء فيغتص بهم ‏{‏وإرصاداً‏}‏ أي إعداداً وانتظاراً ‏{‏لمن حارب الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏ورسوله‏}‏ ولما لم تكن محاربتهم مستغرقة للزمن الماضي، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي قبل اتخاذهم لهذا المسجد بزمن قريب وهو أبو عامر الفاسق ليأتي إليهم فيزيدهم قوة على نفاقهم بأن يصير كهفاً يأوون إليه ورأساً لهم يتجمعون عليه

«وذلك أنه كان من بني غنم بن عوف، وهو والد حنظلة الغسيل الذي كان من خيار الصحابة، وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له‏:‏ ما هذا الدين الذي جئت به‏؟‏ قال‏:‏ الحنيفية دين إبراهيم، قال‏:‏ أبو عامر‏:‏ أنا عليها، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لست عليها، قال‏:‏ بلى ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها، قال‏:‏ ما فعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية، قال أبو عامر‏:‏ أمات الله الكاذب منا طريداً شريداً وحيداً غريباً‏!‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ آمين‏!‏ وسماه الفاسق، ثم تحيز إلى قريش وقاتل النبي صلى الله عليه وسلم معهم يوم أحد وقال‏:‏ لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلما قاتل يوم حنين مع هوازن وانهزموا أيس وهرب إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجنود ومخرج محمداً‏!‏ وكانوا قد حسدوا إخوانهم بني عمرو بن عوف على مسجد قباء لما بنوه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه ويصلي فيه، فبنوا مسجد الضرار وأرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم ليأتيهم فيصلي فيه، وكان يتجهز لتبوك فقال‏:‏ أنا على جناح سفر وحال شغل، وإذا قدمنا صلينا فيه إن شاء الله‏!‏ فلما قدم فكان قريباً من المدينة نزلت الآية، فدعا مالك بن الدخشم وجماعة وقال لهم‏:‏ انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه، ففعلوا، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يتخذ مكانه كناسه يلقي فيها الجيف والقمامه؛ ومات أبو عامر بالشام وحيداً غريباً طريداً»

وقيل‏:‏ كل مسجد بني مباهاة أو لغرض ليس به إخلاص أو بمال مشتبه فهو لاحق بمسجد الضرار‏.‏

ولما أخبر عن سرائرهم، أخبر عن نفاقهم في ظواهرهم بقوله‏:‏ ‏{‏وليحلفن‏}‏ أي جهد أيمانهم ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أردنا‏}‏ أي باتخاذ له ‏{‏إلا الحسنى‏}‏ أي من الخصال؛ ثم كذبهم بقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏يشهد‏}‏ أي يخبر إخبار الشاهد ‏{‏إنهم لكاذبون*‏}‏ وقد بان بهذا كله أن سبب فضيحتهم ما تضمنه فعلهم من عظيم الضرر للإسلام وأهله؛ ثم قال ناهياً عن إجابتهم إلى ما أرادوا به من التلبيس إنتاجاًعن هذا الكلام الذي هو أمضى من السهام‏:‏ ‏{‏لا تقم فيه‏}‏ أي مسجد الضرار ‏{‏أبداً‏}‏ أي سواء تابوا أو لا، وأراد بعض المخلصين أن يأخذه أولاً، اي لا بد من إخرابه ومحو أثره عن وجه الأرض‏.‏

ولما ذمه وذم أهله، مدح مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، إما الذي بالمدينة الشريفة وإما الذي ببني عمرو بن عوف بقباء على الخلاف في ذلك‏.‏ وهو الذي اتخذ في أول الإسلام مسجداً إحساناً وإيماناً وجمعاً بين المؤمنين وإعداداً لمن صادق الله ورسوله، ومدح أهله إرشاداً لكل من كان مال إليه من المؤمنين لقرب أو غيره إلى العوض عنه، ولعله أبهم تعيينه وذكر وصفه ليكون صالحاً لكل من المسجدين‏.‏

لما اتصف بهذا الوصف من غيرهما فقال مؤكداً تعريفاً بما له من الحق ولما للمنافقين من التكذيب‏:‏ ‏{‏لمسجد أُسس‏}‏ أي وقع تأسيسه ‏{‏على التقوى‏}‏ أي فأحاطت التقوى به لأنها إذا أحاطت بأوله أحاطت بآخره؛ ولما كان التأسيس قد تطول مدة أيامه فيكون أوله مخالفاً لآخره، قال‏:‏ ‏{‏من أول يوم‏}‏ أي من أيام تأسيسه، وفيه إشارة إلى ما تقدم من احتمال أن يريد أحد من أهل الإخلاص أن يتخذه مصلى، فبين أنه لايصلح لذلك لأن تأسيسه كان لما هو مباعد له ‏{‏أحق أن تقوم فيه‏}‏ أي بالصلاة والوعظ وغيره من مسجد لم يقصد به التقوى على التقدير فرض محال إلا في ثاني الحال‏.‏

ولما مدحه مدح أهله بقوله‏:‏ ‏{‏فيه رجال‏}‏ أي لهم كمال الرجولية ‏{‏يحبون أن يتطهروا‏}‏ أي في أبدانهم وقلوبهم كمال الطهارة- بما أشار إليه الإظهار، فهم دائماً في جهاد أنفسهم في ذلك فأحبهم الله ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏يحب‏}‏ أي يفعل ما يفعل المحب من الإكرام بالفضل والإحسان، ولإثبات ما أفهم الاجتهاد حصل الغنى عن إظهار تاء التفعل أو للندب إلى الطهارة ولو على أدنى الوجوه المجزئة فقال‏:‏ ‏{‏المطهرين*‏}‏ أي قاطبة منهم ومن غيرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 111‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏109‏)‏ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏110‏)‏ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏111‏)‏‏}‏

ولما علم من هذا بطريق الإشارة والتلويح أن التأسيس مثل ابتداء خلق الحيوان، فمن جبل من أول مرة جبلة شر لا يصلح للخير أبداً ولا يقبله كما قال تعالى ‏{‏ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏ ذكره على سبيل التصريح فسبب عما مضى قوله ممثلاً الباطل ببناء على حرف واد واه جداً على شفير جهنم‏:‏ ‏{‏أفمن أسس بنيانه‏}‏ أي كما أشرت إليه في المسجد المحثوث بالإقبال عليه ‏{‏على تقوى من الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏ورضوان‏}‏ فكان كمن بنى بنيانه على جبل لا تهدمه الأمطار ولا تؤثر فيه السيول ‏{‏خير أم من أسس بنيانه‏}‏ على فسق وفجور وعدم اكتراث بالأمور فكان كمن بنى بنيانه ‏{‏على شفا‏}‏ أي حرف، ومنه الشفه ‏{‏جرف‏}‏ أي مكان جفرة السيل وجرفه فصار مشرفاً على السقوط، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏هار‏}‏ أي هائر، من هار الجرف- إذا أشرف لتخريق السيول على السقوط ‏{‏فانهار‏}‏ أي فكان بناؤه لذلك سبباً لأنه سقط سقوطاً لا تماسك معه ‏{‏به‏}‏ أي وهو فيه آمناً من سقوطه بقلة عقله وسفاهة رأيه ‏{‏في نار جهنم‏}‏ فالجواب‏:‏ لا شك الأول خير بل، لا خير في الثاني أصلاً، والعجب كل العجب من كونه بنى هذا البناء هكذا، فأجيب بأنه لا عجب لأن الأمر بيد الله، لا مفر من قضائه، وهو قد هدى الأول إلى ما فيه صلاحه، ولم يهد الثاني لما علم فيه من عدم قابلية الخير ‏{‏والله‏}‏ الذي له صفات الكمال ‏{‏لا يهدي القوم‏}‏ أي الذين لهم قوة المحاولة لما يريدون ‏{‏الظالمين*‏}‏ أي المطبوعين على ظلام البصائر، فهم لا يكفرون في شيء إلا جاء في غير موضعه وعلى غير نظام كخطوات الماشي في الظلام، وقد علم أن الآية من قبيل الاحتباك‏:‏ أثبت أولاً التقوى لأن أهل الإسلام أحق بها، فدلت على حذف ضدها ثانياً، وأثبت ثانياً ضعف البناء حساً لأن مسجد الضرار أولى به، فدل على حذف ضده أولاً، فذكر النهاية المعقولة لأهلها والبداية المحسوسة للناظرين لها؛ وروي عن جابر رضي الله عنه قال‏:‏ رأيت الدخان من مسجد الضرار؛ وحكي عن خلف بن يسار أنه رأى فيه حجراً يخرج منه الدخان في أول دولة بني العباس‏.‏

ولما كان ما تقدم غير قاطع في إخرابه لما ثبت للمساجد من الحرمة، استأنف الإخبار عن أنه لا يعد في عداد المساجد بوجه، وإنما هو في عداد بيوت الأصنام فهو واجب الإعدام فقال‏:‏ ‏{‏لا يزال بنيانهم‏}‏ أي نفس المبنى وهو المسجد ‏{‏الذي بنوا ريبة‏}‏ أي شكاً ونفاقاً ‏{‏في قلوبهم‏}‏ كما أن بيوت الأصنام كذلك لأهلها، فكان ذلك حثاً على إخرابه ومحوه وقطع أثره‏.‏ والمعنى أنه جامع لهم على الريبة في كل زمان يمكن أن يكون ‏{‏إلا أن‏}‏ ولما كان القطع محصلاً للمقصود من غير نظر إلى قاطع معين، قال بانياً للمفعول‏:‏ ‏{‏تقطع قلوبهم‏}‏ أي إلا زمان يوجد فيه القطع البليغ الكثير لقلوبهم وعزائمهم ويباعد بينهم ويفرق شملهم بإخراجه، وقراءة يعقوب ب «إلى» الجارة واضحة في المراد، أو يكون المراد أنه لايزال حاملاً لهم على التصميم على النفاق إلى أن يموتوا، فهو كناية عن عدم توبتهم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فالله عليم بما أخبركم به فلا تشكوا فيه، عطف عليه تعميماً للحكم وتعظيماً للأمر قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ‏{‏عليم‏}‏ أي بالغ العلم بكل معلوم ‏{‏حكيم*‏}‏ فهو يتقن ما يأمر به‏.‏

ولما تقدم الإنكار على المتثاقلين عن النفر في سبيل الله في قوله تعالى ‏{‏ما لكم إذا قيل لكم انفروا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ ثم الجزم بالأمر بالجهاد بالنفس والمال في قوله ‏{‏انفروا خفافاً وثقالاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏ وكان أمره تعالى كافياً للمؤمن الذي صدق إيمانه بالإسلام في امتثاله لذلك في منشطه ومكرهه، وكان كثير منهم قد فعلوا بتثاقلهم ما يقدح في إيمانهم طعماً في ستره بمعاذيرهم وإيمانهم، اقتضى المقام تبكيت المتثاقلين وتأنيب المنافقين على وجه مهتك لأستارهم مكشف لأسرارهم، فلما استوفى تعالى في ذلك أقسامهم، ونكس ألويتهم وأعلامهم، وختمهم بهذه الطائفة التي ظهر فيها امتثاله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى ‏{‏جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم‏}‏ بأن هدّ مسجدهم وحرقة بالنار وأزال بنيانه وفرقة، وقدّ أديمه عن جديد الأرض ومزقه، أتبع ذلك سبحانه بتذكير المؤمنين ما أمرهم به في قوله تعالى ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ وقوله ‏{‏انفروا خفافاً وثقالاًً‏}‏ ليفعلوا فيه ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به، فساق مساق الجواب لسؤال من كأنه قال‏:‏ لقد طال المدى وعظم الخطب في هذه السورة في إبانة الفضائح وهتك السرائر وإظهار القبائح، فلم فعل ذلك وقد جرت عادته بالأمر بالستر وأخذ العفو‏؟‏ قوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الملك الذي لا ملك في الحقيقة غيره ولا يخشى إلا عذابه ولا يرجى إلا خيره ‏{‏اشترى‏}‏ أي بعهود أكيدة ومواثيق غليظة شديدة، ولذلك عبر بما يدل على اللجاج فيها فقال‏:‏ ‏{‏من المؤمنين‏}‏ أي بالله وما جاء من عنده، وقدم النفس إشارة إلى المبايعة سابقة على اكتساب المال فقال مقدماً للأعز‏:‏ ‏{‏أنفسهم‏}‏ أي التي تفرد بخلقها ‏{‏وأموالهم‏}‏ أي التي تفرد برزقها وهو يملكها دونهم‏.‏

ولما ذكر المبيع أتبعه الثمن فقال‏:‏ ‏{‏بأن لهم الجنة‏}‏ أي خاصة بهم مقصورة عليهم، لا يكون لغير مؤمن، فميزهم حتى يقابل كل بما يستحقه، فكأنه قيل‏:‏ اشترى منهم ذلك بماذا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏يقاتلون في سبيل الله‏}‏ أي الملك الأعلى بسبب دينه الذي لا يرضي غيره، قتالاً يكون الدين محيطاً به وظرفاً، فلا يكون فيه شائبة لغيره؛ ثم سبب عن ذلك ما هو حقيق به، فقال‏:‏ ‏{‏فيقتلون ويقتلون‏}‏ أعم من يكون ذلك بالقوة أو بالفعل، فيخصهم بالجنة كما وعدهم، وقراءة حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول أمدح، لأن من طلب الموت- لا يقف له خصمه فيكون المعنى‏:‏ فطلبوا أن يكونوا مقتولين فقتلوا أقرانهم، ويجوز أن يكون النظر إلى المجموع فيكون المعنى أنهم يقاتلون بعد رؤية مصارع أصحابهم من غير أن يوهنهم ذلك، وعن بعض الأعراب أنه لما سمع هذه الاية قال‏:‏ بيع والله مربح‏!‏ لا نقيل ولا نستقيل، فخرج إلى الغزو فاستشهد‏.‏

ولما كان القتل لكونه سبباً للجنة بشارة ووعداً، أكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وعداً‏}‏ وزاده بحرف الإيجاب فقال‏:‏ ‏{‏عليه‏}‏ وأتم التأكيد بقوله‏:‏ ‏{‏حقاً‏}‏ ولما أكد هذه المبايعة الكريمة هذه التأكيدات العظيمة، زاد ذلك بذكره في جميع الكتب القديمة فقال‏:‏ ‏{‏في التوراة‏}‏ كتاب موسى عليه السلام ‏{‏والإنجيل‏}‏ كتاب عيسى عليه السلام ‏{‏والقرآن‏}‏ أي الكتاب الجامع لكل ما قبله ولكل خير، وهؤلاء المذكورون في هذه السورة كلهم ممن ادعى الإيمان وارتدى به حلل الأمان، ثم إنهم فعلوا بتخلفهم عن الإقباض وتوقفهم عن الإسراع والإيقاض وغير ذلك من أقوالهم ومساوئ أفعالهم فعل الكاذب في دعواه أو الشاك أعم من أن يكون كذب بالآخرة المشتملة على الجنة أو يكون شك في وعد الله بإيراثهم إياها أو بتخصيصهم بها، وجوز أن يدخلها غيرهم وطمع أن يكون هو ممن يدخلها مع التكذيب، والله تعالى منزه عن جميع ذلك وهو وفي بعهده ‏{‏ومن‏}‏ أي وعد بذلك والحال أنه أوفى المعاهدين فهو مقول فيه على طريق الاستفهام الإنكاري‏:‏ من ‏{‏أوفى بعهده من الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال لأن الإخلاف لا يقدم عليه الكرام من الناس فكيف بخالقهم الذي له الغنى المطلق‏.‏

ولما كان ذلك سبباً للتبشير، لأنه لا ترغيب في الجهاد أحسن منه، قال مهنئاً لهم‏:‏ ‏{‏فاستبشروا‏}‏ أي فأوجدوا في نفوسكم غاية البشر يا معاشر المجاهدين ولما ذكره في ابتداء العقد يدل على التأكيد، ذكره في آخر بلفظ يدل على السعة إشارة إلى سعة الجزاء فقال‏:‏ ‏{‏ببيعكم الذي بايعتم‏}‏ أي أوقعتم المبايعة لله ‏{‏به‏}‏ فإنه موفيكم لا محالة فذلك هو الأجر الكريم ‏{‏وذلك‏}‏ أي إيراثكم الجنة وتخصيصكم بها ‏{‏هو‏}‏ أي خاصة لا غيره ‏{‏الفوز العظيم*‏}‏ فالحاصل أن هذه الآية واقعة موقع التعليل للأمر بالنفر بالنفس والمال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 114‏]‏

‏{‏التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏113‏)‏ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ‏(‏114‏)‏‏}‏

ولما ثبتت المعاقدة وأحكامها، وصف المعاقدين على طريق المدح للحث على أوصافهم فقال‏:‏ ‏{‏التآئبون‏}‏ مبتدئاً أوصافهم بالتوبة التي هي أساس العمل الصالح، ثم ابتدأ المؤسس بمطلق العبادة الشاملة لجميع أنواع الدين من العلم وغيره فقال‏:‏ ‏{‏العابدون‏}‏ أي الذين أقبلوا على العبادة فأخلصوها لله؛ ولما كان التزام الدين لا يعرف إلا بالإقرار باللسان، أتبع ذلك الحمد الذي تدور مادته على بلوغ الغاية الذي من جملته الثناء اللساني بالجميل الشامل للتوحيد وغيره فقال‏:‏ ‏{‏الحامدون‏}‏ أي المثنون عليه سبحانه ثناء عظيماً، تطابقت عليه ألسنتهم وقلوبهم فتبعته آثاره؛ ولما كان الإقرار باللسان لا يقبل إلا عند مطابقة القلب، تلاه بالسياحة التي تدور بكل ترتيب على الاتساع الذي منه إصلاح القلب ليتسع للتجرد عن ضيق المألوفات إلى فضاء الحضرات الإلهيات فقال‏:‏ ‏{‏السائحون‏}‏ ولما كانت الصلاة نتيجة ذلك لكونها جامعة لعمل القلب واللسان وغيرهما من الأركان، وهي أعظم موصل إلى بساط الأنس في حضرات القدس وأعلى مجرد عن الوقوف مع المألوف‏.‏ وكان أول مراتب التواضع القيام وأوسطها الركوع وغايتها السجود، وكان جميع أشكال الصلاة موافقاً للعادة إلا الركوع والسجود، أشار إليها بقوله مخصصاً لها بالذكر تنبيهاً على أن المراد من الصلاة نهاية الخضوع‏:‏ ‏{‏الراكعون‏}‏ فبين أن تمام هذه البشرى لهذه الأمة أن صلاة غيرهم لا ركوع فيها، وأتمها بقوله‏:‏ ‏{‏الساجدون‏}‏ ولما كان الناصح لنفسه بتهذيب لسانه وقلبه وجميع جوارحه لا يقبل إلا إذا بذل الجهد في نصيحة غيره كما صرح به مثال السفر في السفينة ليحصل المقصود من الدين وهو جمع الكل على الله المقتضي للتعاضد والتناصر الموجب لدوام العبادة والنصرة وبذلك يتحقق التجرد عن كل مألوف مجانس وغير مجانس، أتبع ذلك قوله‏:‏ ‏{‏الآمرون بالمعروف‏}‏ أي السنة‏.‏

ولما كان الدين متيناً فلن يشاده أحد إلا غلبه، كان المراد من المأمورات مسماها دون تمامها ومنتهاها «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» والمراد من المنهيات تركها كلها، ومن الحدود الوقوف عندها من غير مجاوزة «وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» رواه البخاري في الاعتصام من صحيحه ومسلم ايضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكانت العرب- كما تقدم في البقرة عند قوله تعالى ‏{‏والصلاة الوسطى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ وفي آل عمران عند قوله ‏{‏الصابرين والصادقين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 17‏]‏ عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي- إذا أتبعت بعض الصفات بعضاً من غير عطف علم أنها غير تامة، فإذا عطفتها أردت التمكن فيها والعراقة والتمام، فأعلم سبحانه أن المراد فيما تقدم من الأوصاف الإتيان بما أمكن منها، فأتى بها اتباعاً دون عطف لذلك، وأشار إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف عند الحدود لا يقنع منه إلا بالتمام لأن المقصر في شيء من ذلك إما راض بهدم الدين وإما هادم بنفسه، فيجب التجرد التام فيه لأن النهي أصعب أقسام العبادة لأنه متعلق بالغير وهو مثير للغضب موجب للحمية وظهور الخصومة، فربما كان عنه ضرب وقتل، فلذلك عطفها ولم يتبعها فقال‏:‏ ‏{‏والناهون‏}‏ أي بغاية الجد ‏{‏عن المنكر‏}‏ أي البدعة‏.‏

ولما كان فاعل الخير لا ينفعه فعله إلا باستمراره عليه إلى الموت أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏والحافظون‏}‏ أي بغاية العزم والقوة ‏{‏لحدود الله‏}‏ أي الملك الأعظم التي حدها في هذا الشرع القيم فلم يتجاوزوا شيئاً منها، فختم بما به بدأ مع قيد الدوام بالرعي والقوة، والحاصل أن الوصف الأول للتجرد عن ربقة مألوف خاص وهو شرك المعصية بشركه أو غيره، والثاني للتجرد عن قيود العادات إلى قضاء العبادات، والثالث لبلوغ الغاية في تهذيب الظاهر‏.‏ والرابع للتوسع إلى التجرد عن قيود الباطن، والخامس والسادس للجمع بين كمال الباطن والظاهر، والسابع للسير إلى إفاضة ذلك على الغير، والثامن للدوام على تلك الحدود بترك جميع القيود‏.‏ فمقصود الآية العروج من الحضيض الجسماني إلى الشرف الروحاني؛ ثم أمره صلى الله عليه وسلم بتبشير المتخلق بهذه الأوصاف عاطفاً لأمره به على محذوف تقديره- والله أعلم‏:‏ فأنذر من تخلى منها بكل ما يسوءه بعد سجنه في دار الشقاوة فإنه كافر وبشرهم، أي هؤلاء الموصوفين، هكذا كان الأصل الإضمار، ولكنه أظهر ختاماً بما به بدأ وتعليقاً يالوصف وتعميماً فقال‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين*‏}‏ أي المتخلقين بها بكل ما يسرهم بعد تخصيصهم بدار السعادة، وفي ختم الآيتين بالبشارة تارة من الخالق وتارة من أكمل الخلائق أعظم مزية للمؤمنين، وفي جعل الأولى من الله أعظم ترغيب في الجهاد وأعلى حث على خوض غمرات الجلاد، وفي ابتداء الأيتين بالوصف المعشر بالرسوخ في الإيمان الذي هو الوصف المتمم للعشر وختمهما بمثله إشارة إلى أن هذه مائدة لا يخلس عليها طفيلي، وأن من عدا الراسخين في درجة الإهمال لا كلام معهم ولا التفات بوجه إليهم‏.‏

ولما كثرت في هذه السورة الأوامر بالبراءة من أحياء المشركين وجاء الأمر أيضاً بالبراءة من أموات المنافقين بالنهي عن الدعاء لهم، جاءت هذه الآية مشيرة إلى البراءة من كل مشرك فوقع التصريح بعدها بما أشارت إليه، وذلك أنه لما ثبت بهذه الآية في تقديم الجار أن المبايعة وقعت على تخصيص الجنة بالمؤمنين وأنه تعالى أوفى من عاهد، ثبت أنه لا يجوز أن يدخل غيرهم الجنة وأن غيرهم أصحاب النار، لأنه قد علم أن الآخرة داران‏:‏ جنة ونار، ولما ثبت هذا كله علم قطعاً علم النتيجة من المقدمات الصحيحة أنه ‏{‏ما كان‏}‏ أي في نفس الأمر ‏{‏للنبي‏}‏ أي الذي لا ينطق إلا بما عنده فيه بيان من الله ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بأنهم صدقوا بدعوته فلا يفعلون إلا ما عندهم منه علم ‏{‏أن يستغفروا‏}‏ أي يطلبوا المغفرة ويدعوا بها ‏{‏للمشركين‏}‏ أي الراسخين في الإشراك في عبادة ربهم ‏{‏ولو كانوا‏}‏ أي المشركين ‏{‏أولي قربى‏}‏ أي للذين آمنوا ‏{‏من بعد ما تبين لهم‏}‏ أي بموتهم على الشرك وإنزال هذه الآية للختم بالتخصيص بالجنة ‏{‏أنهم أصحاب الجحيم*‏}‏ أي لا أهلية لهم للجنة‏.‏

فإن الاستغفار معناه محو الذنوب حتى ينجو صاحبها من النار ويدخل الجنة وما ينبغي لهم أن يكون لهم إليهم التفات فإن ذلك ربما جر إلى ملاينة تفتر عن القتال الواقع عليه المبايعة، فما ينبغي إلا محض المقاطعة والمخاشنة والمنازعة‏.‏ وتقييد النهي بالتبيين يدل على جواز الدعاء للحي فإن القصد بالاستغفار الإقبال به إلى الإيمان الموجب للغفران‏.‏ ولما أنكر أن يكون لهم ذلك‏.‏ وكان الخليل عليه السلام المأمور بالاقتداء به واللزوم بملته قد استغفر لأبيه، بين أنه كان أيضاً قبل العلم بما في نفس الأمر من استحقاقه للتأبيد في النار، فقال دالاً بواو العطف على أن التقدير‏:‏ فما استغفر لهم بعد العلم أحد من المؤمنين‏:‏ ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم‏}‏ أي خليل الله ‏{‏لأبيه‏}‏ أي بعد أن خالفه في الدين ‏{‏إلا عن موعدة‏}‏ أي وهي قوله ‏{‏لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ وأكد صدور الوعد بقوله‏:‏ ‏{‏وَعَدَها إياه‏}‏ أي الخليل لأبيه قبل أن يعلم أنه أبدى الشقاوة، وقيل‏:‏ الضمير لأبيه، كان وعده أنه يسلم فاستغفر له ظناً منه أنه صدق في وعده فأسلم، والذي يدل على أنه كان قبل علمه بذلك قوله‏:‏ ‏{‏فلما تبين له‏}‏ أي بياناً شافياً قاطعاً ‏{‏أنه عدو لله‏}‏ أي الملك الأعلى مؤبد العداوة له بموته على الكفر أو بالوحي بأنه يموت عليه ‏{‏تبرأ‏}‏ أي أكره نفسه على البراءة ‏{‏منه‏}‏ ثم علل ما أفهمته صيغة التفعل من المعالجة بقوله‏:‏ ‏{‏إن إبراهيم لأواه‏}‏ أي شديد الرقة الموجبة للتأوه من خوف الله ومن الشفقة على العباد؛ قال الزجاج‏:‏ والتأوه أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء ‏{‏حليم*‏}‏ أي شديد التحمل والإغضاء عن المؤذى له، هكذا خلقه في حد ذاته فكيف في حق أبيه ولو قال له ‏{‏لأرجمنك واهجرني‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 46‏]‏ وأضعاف ذلك؛ قال الإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل البستي القاضي في تفسيره‏:‏ حدثنا حرملة حدثنا ابن وهب أخبرني ابن جريح عن أيوب بن هانئ عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً وخرجنا معه حتى انتهى إلى المقابر فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فجلس إليه فناجاه طويلاً ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إلينا فتلقاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال‏:‏ ما الذي أبكاك يا نبي الله فقد فقد أبكانا وأفزعنا، فأخذ بيد عمر رضي الله عنه ثم أقبل إلينا فأتيناه فقال‏:‏ أفزعكم بكائي‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم يا رسول الله‏!‏ قال‏:‏ إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب وإني استأذنت ربي في الاستغفار لها فلم ياذن لي ونزل عليّ ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى‏}‏ حتى ختم الآية ‏{‏وما كان استغفار إبراهيم لأبية إلا عن موعدة وعدها إياه‏}‏ فأخذني ما يأخذ الولد من الرقة فذلك الذي أبكاني»

وهذا سند حسن، ولمسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه في الجنائز عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال‏:‏ «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» وللبخاري في التفسير وغيره ابن المسيب عن أبيه رضي الله عنه قال‏:‏ «لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي عم‏!‏ قل‏:‏ لا إله إلا الله، أُحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية‏:‏ يا أبا طالب‏!‏ أترغب عن ملة عبد المطلب‏؟‏- وفي رواية‏:‏ فكان آخر ما كلمهم أن قال‏:‏ هو على ملة عبد المطلب- فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين‏}‏ وأنزل الله في أبي طالب ‏{‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏» ولعله استمر يستغفر له ما بين موته وغزوة تبوك حتى نزلت، ورُوي في سبب نزولها غير هذا أيضاً، وقد تقدم أنه يجوز أن تتعدد الأسباب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 117‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏116‏)‏ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏117‏)‏‏}‏

ولما كان الاستغفار للمشركين أمراً عظيماً، وكان فيه نوع ولاية لهم، أظهر سبحانه للمؤمنين ما منّ عليهم به من عدم المؤاخذة بالإقدام عليه تهويلاً لذلك وقطعاً لما بين أوج الإيمان وحضيض الكفران بكل اعتبار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال؛ ولما كان الضلال سبب الهلاك، وكان من شرع شريعة ثم عاقب ملتزمها من غير بيان كمن دل على طريق غير موصل فهلك صاحبه فكان الدال بذلك مضلاً، قال‏:‏ ‏{‏ليضل قوماً‏}‏ أي يفعل بهم ما يفعل بالضالين من العقوبة لأجل ارتكابهم لما ينهي عنه بناسخ نسخه ‏{‏بعد إذ هداهم‏}‏ أي بشريعة نصبها لهم ‏{‏حتى يبين لهم‏}‏ أي بياناً شافياً لداء العي ‏{‏ما يتقون‏}‏ أي مما هو جدير بأن يحذروه ويتجنبوه خوفاً من غائلته بناسخ ينسخ حال الإباحة التي كانوا عليها‏.‏

ولما كان الذي يأمر بسلوك طريق ثم يترك فيها ما يحتاج إلى البيان إنما يؤتى عليه من الجهل أو النسيان‏.‏ نفي ذلك سبحانه عن نفسه فقال معللاً لعدم الإضلال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال ‏{‏بكل شيء عليم*‏}‏ أي بالغ العلم فلا يتطرق إليه خفاء بوجه من الوجوه في حين من الأحيان فهو يبين لكم جميع ما تأتون وتذرون وما يتوقف عليه الهدى، وما تركه فهو إنما يتركه رحمة لكم ‏{‏لا يضل ربي ولا ينسى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 52‏]‏ فلا تبحثوا عنه؛ ثم علل علمه بكل شيء بأن قدرته شاملة فهو قادر على نصرة من يريد والانتقام ممن يريد، فلا ينبغي لأحد أن يحب إلا فيه ولا يبغض إلا فيه ولا يهتم بعداوة أحد ممن عاداه فقال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏له‏}‏ أي بكل اعتبار تعدونه من اعتبارات الكمال ‏{‏ملك السماوات والأرض‏}‏ فلا يخفى عليه شيء فهو خبير بكل ما ينفعكم ويضركم وهو وليكم، يبينه لكم، ومن كان له جميع الملك كان بحيث لا يستعصي على أمره شيء‏:‏ علم ولا غيره، لأن العلم من أعظم القوى والقدر، ولا يكون الملك إلا عالماً قادراً؛ ثم علل قدرته وعلمه بما يشاهد متكرراً من فعله في الحيوان والنبات وغير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏يحيي ويميت‏}‏ أي بكل معنى فهو الذي أحياكم وغيركم الحياة الجسمانية وخصم أنتم بالحياة الإيمانية، وكما جعل غيركم بعضهم أولياء بعض وجمعهم كلهم على ولاية عدوهم الشيطان جعلكم أنتم أولياء ربكم الرحمن فهو وليكم وناصركم ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنه ما ‏{‏لكم‏}‏ ولما كان ليس لأحد أن يجوز كل ما دون رتبته سبحانه، أثبت الجار فقال‏.‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الملك الذي له الأمر كله، وأغرق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من ولي‏}‏ أي قريب يفعل معكم من الحياطة والنصح ما يفعل القريب من النصرة وغيره‏.‏

ولما كان الإنسان قد ينصره غير قريبه قال‏.‏ ‏{‏ولا نصير*‏}‏ أي فلا توالوا إلا من كان من حزبه وأهل حبه وقربه، وفيه تهديد لمن أقدم على ما ينبغي أن يتقي لا سيما الملاينة لأعداء الله من المساترين والمصارحين، فإن غاية ذلك موالاتهم وهي لا تغني من الله شيئاً‏.‏

ولما أشار إلى أنه هو وليهم أحياهم بروح منه مبين لهم ما يصلحهم وأنه لا ولي لهم غيره، أقام الدليل على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لقد تاب الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام ‏{‏على النبي‏}‏ أي الذي لا يزال عنده من الله خبر عظيم يرشده إلى ما يؤذن بتقوية حياته برفع درجاته، فما من مقام يرقيه إليه إلا رأى أنه لمزيد علوه وتقربه للمقام الذي كان دونه، فهو في كل لمحة في ارتقاء من كامل إلى أكمل إلى ما لا نهاية له‏.‏

ولما أخبر تعالى بعلو رتبة النبي صلى الله عليه وسلم بترقيته في رتب الكمالات والأكمليات إلى ما لا نهاية له على وجه هو في غاية البعث لكل مؤمن على المبادرة إلى التوبة، أكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏والمهاجرين والأنصار‏}‏ بمحو هفواتهم ورفع درجاتهم ‏{‏الذين اتبعوه‏}‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏في ساعة العسرة‏}‏ أي أزمنة عزوة تبوك، كانوا في عسرة من الزمان بالجدب والضيقة الشديدة والحر الشديد، وعسرة من الظهر «يعتقب العشرة» على بعير واحد‏.‏ وعسرة من الزاد «تزودوا التمر المدوّد والشعير المسوّس والإهالة الزنخة» وبلغت بهم الشدة أن اقتسم التمر اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء، وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها؛ وسماها ساعة تهويناً لأوقات الكروب وتشجيعاً على مواقعة المكاره فإن أمدها يسير وأجرها عظيم خطير، فكانت حالهم باتباعه في هذه الغزوة أكمل من حالهم قبلها، وأشار سبحانه إلى تفاوتهم في الثبات على مقامات عالية، ترقوا بالتوبة إلى أعلى منها، وفي قبول وساوس أبعدتهم التوبة عن قبولها بقوله‏:‏ ‏{‏من بعد ما كاد‏}‏ أي قرب قرباً عظيماً ‏{‏يزيغ‏}‏ أي تزول عن أماكنها الموجبة لصلاحها، وأشار ب «من» إلى تقارب ما بين كيدودة الزيغ والتدارك بالتوبة‏.‏ ولما كان المقام للزلازل، ناسب التعبير بما منه الانقلاب والفرقة فقال‏:‏ ‏{‏قلوب فريق‏}‏ أي هم بحيث تحصل منهم الفرقة لما هناك من الزلازل المميلة ‏{‏منهم‏}‏ أي من عظيم ما نالهم من الشدائد فتميل لذلك عن الحق كأبي خيثمة ومن أحب الراحة وهاب السفر في ذلك الحر الشديد إلى بني الأصفر الملوك الصيد الأبطال الصناديد، وهم ملء الأرض كثرة وقدر الحصى عدة ومثل الجبال شدة، ثم عزم الله له فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع سبحانه بالجميع إلى ما كانوا عليه قبيل مقاربة الزيغ من مباعدته، ولما صاروا كمن لم يقارب الزيغ‏.‏

أعلاهم إلى مقام آخر عبرعن عظمته بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم تاب عليهم‏}‏ أي كلهم تكريراً للرفعة، أو على من كاد يزيغ بالثبات على مباعدة الزلات وبالترقي في أعالي الدرجات إلى الممات؛ ونقل أبو حيان عن الحسن أن زيغها همها بالانصراف لما لقيت من المشقة، قال وقيل‏:‏ ساء ظنها بما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد الشقة وقوة العدو المقصود-انتهى‏.‏ ويجوز أن يكون عبر ب ‏{‏ثم‏}‏ لوصولهم إلى حالة يبعد معها الثبات فضلاً عن مباعدة مواقع الزلات فثبتها حتى عادت كالحديد من غير سبب ظاهر من «جيش أو غيره» فثبت بذلك أنه مالك الملك متمكن من فعل كل ما يريده وأنه لا ولي لهم سواه‏:‏ ثم علل لطفه بهم بقوله‏:‏ ‏{‏إنه بهم رؤوف رحيم*‏}‏ والرأفة‏:‏ شدة الرحمة، فقدم الأبلغ فيقال فيه ما قيل في ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ فالمعنى أنه يرحمهم أعلى الرحمة بإسباغ جلائل النعم ودفع جلائل النقم، ويرحمهم أيضاً بإسباغ دقائق النعم ودفع دقائق النقم، وقيل‏:‏ الرأفة‏:‏ إزالة الضر، والرحمة‏:‏ إيصال النفع، ومادة رأف تدور مع السعة على ما أُشير إليه في سورة سبحان على شدة الوصلة‏.‏ فالرأفة- كما قال الحرالي في البقرة- عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم، والرحمة تعم من لا صلة له بالراحم- انتهى‏.‏ فتكون الرأفة حينئذ للثابتين والرحمة لمن قارب الزيغ‏.‏ فيصير الثابت مرحوماً مرتين لأنه منظور إليه بالصفتين، وتقدم عند الحزبين من البقرة ما ينفع هنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 120‏]‏

‏{‏وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏118‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ‏(‏119‏)‏ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

ولما صرح بالتوبة على من قارب الزيغ وخلط معهم أهل الثبات إشارة إلى أن كل أحد فقير إلى الغني الكبير وليكون اقترانهم بأهل المعالي، وجعلهم في حيزهم تشريفاً لهم وتأنيساً لئلا يشتد إنكارهم، أتبعه التوبة على من وقع منه الزيغ فقال غير مصرح بالزيغ تعليماً للأدب وجبراً للخواطر المنكسرة‏:‏ ‏{‏وعلى‏}‏ أي ولقد تاب الله على ‏{‏الثلاثة الذين‏}‏‏.‏

ولما كان الخلع للقلوب مطلق التخليف، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏خلفوا‏}‏ أي خلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجران ونهى الناس عن كلامهم، وأخر الحكم فيهم ليأتي أمر الله في بيان أمرهم واستمر تخليفهم ‏{‏حتى إذا ضاقت‏}‏ أشار إلى عظيم الأمر بأداة الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏عليهم الأرض‏}‏ أي كلها ‏{‏بما رحبت‏}‏ أي مع شدة اتساعها، أي ضاق عليهم فسيحها ووسعها‏.‏

ولما كان هذا قد يراد به الحقيقة، وكان ضيق المحل قد لا يستلزم ضيق الصدر، أتبعه الدلالة على أن المراد المجاز فقال‏:‏ ‏{‏وضاقت عليهم‏}‏ بالهم المزعج والغم المقلق ‏{‏أنفسهم‏}‏ أي من شدة ما لاقوا من الهجران حتى بالكلام حتى برد السلام؛ ولما كان ذلك لا يقتضي التوبة إلا بالمراقبة، أتبعه ذلك للتخلف بها قوله‏:‏ ‏{‏وظنوا‏}‏ أي أيقنوا، ولعله عبر بالظن إيذان بأنهم لشدة الحيرة كانت قلوبهم لا تستقر على حال، فكان يقينهم لشدة الخواطر كأنه ظن، أو يقال- وهو حسن-‏:‏ إن التعبير به عن يقين المخلصين إشارة إلى أن أعلى اليقين في التوحيد لا يبلغ الحقيقة على ما هي عليه أن لا يقدر أحد أن يُقدر لله حق قدره- كما قال صدق الخلق صلى الله عليه وسلم «لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» وهذا من النفائس فاستعمله في أمثاله ‏{‏أن لا ملجأ‏}‏ أي مهرب ومفزع ‏{‏من الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏إلا إليه‏}‏ أي بما يرضيه، وهو مثل لتحيرهم في أمرهم، وجواب ‏{‏إذا‏}‏ محذوف دل عليه صدر الكلام تقديره‏:‏ تداركهم بالتوبة فردهم إلى ما كانوا عليه قبل مواقعة الذنب‏.‏

ولما كان ما عملوه من التخلف عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عظيماً بمجرد المخالفة ثم يترك المواساة ثم بالرغبة عنه صلى الله عليه وسلم ثم بأمور عظيمة شديدة القبح وخيمة فكان يبعد معه الزيادة عن رتبة التوبة، أعلم سبحانه أنه رقاهم في رتب الكمال بأن جعل ذلك سبباً لتطهيرهم من جميع الأدناس وتنقيتهم من سائر الأردان المقتضي لمزيد القرب بالعروج في مصاعد المعارف- كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم لكعب رضي الله عنه «أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك»، أتبع ذلك سبحانه الإعلام به بقوله- مشيراً إلى ما بعده لولا فضل الله- بأداة الاستبعاد‏:‏ ‏{‏ثم تاب عليهم‏}‏ أي رجع بهم بعد التوبة إلى مقام من مقامات سلامة الفطرة الذي هو أحسن تقويم يعلو لعلوه بالنسبة إلى ما دونه، توبة ‏{‏ليتوبوا‏}‏ أي ليرجعوا إلى ما تقتضيه الفطرة الأولى من الثبات على ما كانوا عليه من الإحسان في الدين والتخلق بإخلاق السابقين، ولعله عبر بالظن موضع العلم إشارة إلى أنه يكفي في الخوف من جلاله للانقطاع إليه مجرد الظن بأنه لا سبب إليه إلا منه لأنه محيط بكل شيء لا يعجزه شيء، ويمكن أن يكون التعبير- ‏{‏ثم‏}‏ إشارة إلى عظيم ما قاسوا من الأهوال وما ترقوا إليه من مراتب الخوف، وامتنان عليهم بالتوبة من عظيم ما ارتكبوا، وإنما خصوا عن رفقائهم بأن أرجئوا لأمر الله لعلو مقامهم بما لهم من السابقة ورسوخ القدم في الإسلام، فالمخالفة اليسيرة منهم أعظم من الكثير من غيرهم لأنهم أئمة الهدى ومصابيح الظلم، ومن هذا البارق- حسنات الأبرار سيئات المقربين- ثم علل التوبة بأمر يعم غيرهم ترغيباً فقال معبراً بما يشير مع أعلى مقامهم إلى نزوله عن مقام من قبلهم‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏التواب‏}‏ أي البليغ التوبة على من تاب وإن عظم جرمه وتكررت توبته لتكرر ذنوبه ‏{‏الرحيم*‏}‏ أي المكرم لمن أراد من عباده بأن يحفظه على ما يرتضيه فلا يزيغ، ويبالغ في الإنعام عليه‏.‏

ولما كان الذي نالوا به الإقبال من مولاهم عليهم- مما وصفهم به من الضيق وما معه- هو التقوى والصدق في الإيمان كما كان ما يجده الإنسان في نفسه مما الموت عنده والقذف في النار أحب إليه من التلفظ به صريح الإيمان بشهادة المصطفى صلى الله عليه وسلم، رغب سبحانه في الصدق فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي ادعوا ذلك ‏{‏اتقوا الله‏}‏ أي خافوا سطوة من له العظمة الكاملة تصديقاً لدعواكم فلا تفعلوا إلا ما يرضيه ‏{‏وكونوا‏}‏ أي كوناً صادقاً بجميع الطبع والجبلة ‏{‏مع الصادقين*‏}‏ أي في كل أمر يطلب منهم، ولعله أخرج الأمر مخرج العموم ليشمل كل مؤمن، فمن كان مقصراً كانت آمره له باللحاق، ومن كان مسابقاً كانت حاثة له على حفظ مقام الاستباق، ولعله عبر ب ‏{‏مع‏}‏ ليشمل أدنى الدرجات، وهو الكون بالجثت، وقد روى البخاري توبة كعب أحد هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم في مواضع من صحيحه منها التفسير، وكذا رواه غيره عن كعب نفسه رضي الله عنه «أنه لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط غير غزوتين‏:‏ غزوة العسرة- يعني هذه- وغزوة بدر، وأن تخلفه ببدر إنما كان لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب الناس إليها ولا حثهم عليها لأنه ما خرج أولاً إلا لأجل العير، قال‏:‏ فأجمعت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان قل ما يقدم من سفر سافره إلا ضحى، وكان يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي- يعني مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي- ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا، فاجتنب الناس كلامنا فلبثت كذلك حتى طال عليَّ الأمر، وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي عليّ النبي صلى الله عليه وسلم أو يموت النبي صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي عليّ، فأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الآخر من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة رضي الله عنها، وكانت أم سلمة محسنة في شأني معنية في أمري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ياأم سلمة‏!‏ تيب على كعب، قالت‏:‏ أفلا أرسل إليه فأشره‏؟‏ قال‏:‏ إذن يحطمكم الناس فيمنعوكم النوم سائر الللية حتى إذا صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا، وكان إذا استبشر استنار وجهه حتى كأنه قطعة من القمر، وكنا- أيها الثلاثة الذين خلفوا- خلفنا عن الأمر الذي قبل من هؤلاء الذين اعتذروا حين أنزل الله لنا التوبة، فلما ذكر الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المتخلفين واعتذروا بالباطل ذكروا بشر ما ذكر به أحد، قال الله عز وجل ‏{‏يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم‏}‏»‏.‏

ولما كان ما نالهم من الأهوال إنما نالهم بتخلفهم عن أشرف الخلق، والذي التفت بهم إلى مرابع الإقبال إنما هو الصدق، قال تعالى ناهياً بصيغة الخبر ليكون أبلغ، جامعاً إليهم من كان على مثل حالهم في مطلق التخلف‏:‏ ‏{‏ما كان‏}‏ أي ما صح وما انبغى بوجه من الوجوه ‏{‏لأهل المدينة‏}‏ أي التي هي سكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي دار الهجرة ومعدن النصرة ‏{‏ومن حولهم‏}‏ أي في جميع نواحي المدينة الشريفة ‏{‏من الأعراب‏}‏ أي من سكان البوادي الذين أقسموا بالإسلام ‏{‏أن يتخلفوا‏}‏ أي في أمر من الأمور ‏{‏عن رسول الله‏}‏ أي الملك الأعلى، ومن شأن المرسل إليه أن لا يبرح عن جنان الرسول لا سيما وهو رأس الصادقين الذين وقع الأمر بالكون معهم ‏{‏ولا يرغبوا‏}‏ أي وما كان لهم أن يرغبوا، ولعله قللهم بصيغة القلة بالنسبة إلى من أيده به صلى الله عليه وسلم من جنوده فقال تعالى‏:‏ ‏{‏بأنفسهم عن نفسه‏}‏ أي التي هي أشرف النفوس مطلقاً بأن يصونوا نفوسهم عما باشره صلى الله عليه وسلم بل يلقونها في المتالف دونه وصيانة لنفسه الشريفة عن أدنى الأذى، فهى كالتعليل للأمر بالتقوى أي خافوا الله وأصدقوه كما صدق هؤلاء ليتوب عليكم كما تاب عليهم فإنه لم يكن لكم التخلف فهو نهي بليغ مع تقبيح وتوبيخ وإلهاب وتهييج‏.‏

ولما علل الأمر بالتقوى، علل النهي عن التخلف بما يدل على صدق الإيمان فيصير نقيضه دالاً على نقيضه فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي النهي العظيم عن التخلف في هذا الأسلوب النافي للكون ‏{‏بأنهم لا يصيبهم ظمأ‏}‏ أي عطش شديد ‏{‏ولا نصب‏}‏ أي تعب بالغ ‏{‏ولا مخمصة‏}‏ أي شدة مجاعة ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي طرق دين الملك الأعظم المتوصلة به إلى جهاد أعدائه، ورتبت هذه الأشياء ترتيبها في الوجود فإن مطلق الحركة يهيج الحرارة فينشأ العطش وتماديها يورث التعب، والأغلب أن يكون قبل الجوع‏.‏

ولما كان المقصود من إجهاد النفس بما ذكر إرغام الكفار باقتحام أرضهم المتوصل به إلى إيمانهم بالنيل منهم، أتبع ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ولا يطؤون موطئاً‏}‏ أي وطأً أو مكاناً وطؤه ‏{‏يغيظ الكفار‏}‏ أي وطؤهم له بأرجلهم أو دوابهم ‏{‏ولا ينالون من عدو نيلاً‏}‏ أي كائناً ما كان صغيراً او كبيراً ‏{‏إلا كتب لهم به‏}‏ أي في صحائف الأعمال، بني للمفعول لأن القصد إثباته لا من معين ‏{‏عمل صالح‏}‏ أي ترتب لهم عليه أجر جزيل‏.‏

ولما كان فاعل هذه الأشياء مقدماً على المعاطب في نفسه ومحصلاً لعرض الجهاد، أشير على وجه التأكيد في جملة اسمية إلى أنه محسن، أما في حق نفسه فبإقامة الدليل بطاعته على صدق إيمانه‏.‏ وأما في غيره من المؤمنين فبحمايتهم عن طمع الكافرين‏.‏ وأما في حق الكفار فبحملهم على الإيمان بغاية الإمكان، فقال تعالى معللاً للمجازاة‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏لا يضيع‏}‏ أي لا يترك تركه ما من شأنه الإهمال ‏{‏أجر المحسنين*‏}‏ وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً بالوصف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 122‏]‏

‏{‏وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏121‏)‏ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

ولما كانت المشقة بالإنفاق العائد ضرره إلى المال، ووطئ مطلق الأرض الذي قد لا يلزم منه وصول إلى ما يغيظ العدو دون المشقة الحاصلة في النفس بالظمأ وما معه من فعل ما يغيظ العدو وينقصه، قدم ذلك على قوله‏:‏ ‏{‏ولا ينفقون‏}‏ ولما كان القليل قد يحتقر، ابتدأ به ترغيباً في قوله‏:‏ ‏{‏نفقة صغيرة‏}‏ ولما كان ربما تعنت متعنت فجعل ذكرها قيداً، قال‏:‏ ‏{‏ولا كبيرة‏}‏ إعلاماً بأنه معتد به لئلا يترك، وفيه إشارة إلى آية اللمز للمطوعين في الصدقات ‏{‏ولا يقطعون وادياً‏}‏ أي من الأدوية بالسير في الجهاد، والوادي‏:‏ كل منفرج بين جبال وآكام ينفذ فيه السيل، وهو في الأصل فاعل من ودى- إذا سال ‏{‏إلا كتب لهم‏}‏ أي ذلك الإنفاق والقطع، بناه للمفعول لأن القصد الحفظ بالكتابة مطلقاً ‏{‏ليجزيهم الله‏}‏ أي ذو الجلال والإكرام، أي بذلك من فضله ‏{‏أحسن ما كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏يعملون*‏}‏ مضاعفاً على قدر الثبات، وأكدت فاصلة الأولى دون هذه لزيادة تلك في المشقة والنفع، ولذا صرح فيها الأجر والعمل الصالح- نبه على ذلك الإمام أبو حيان‏.‏ ومن هنا بل من عند ‏{‏إن الله اشترى‏}‏ شرع في عطف الآخر على الأول الذي مضمونه البراءة من المشركين والاجتهاد في قتالهم بعد انقضاء مدتهم حيث وجدوا- إلى أن قال ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله‏}‏- إلى أن قال ‏{‏ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض‏}‏ ثم قال ‏{‏انفروا خفافاً وثقالاً‏}‏ ثم أتبع ذلك قصص المنافقين كما أنه فعل هنا كذلك أن ختم بقوله ‏{‏قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‏}‏ الآية ثم أتبعها ذكر المنافقين‏.‏

ولما تواترت النواهي للمتخلفين وتواصلت الزواجر وتعاظم التبكيت والتهديد، طارت القلوب وأشفقت النفوس، فكان ذلك مظنة أن لا يتخلف بعدها أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمن يقوم مقامه فيتمكن حينئذ الأعداء من الأموال والذراري والعيال، فأتبع ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون‏}‏ أي الذين حثهم على النَّفر الرسوخ في الإيمان ‏{‏لينفروا كآفة‏}‏ أي جميعاً فإن ذلك بخل بكثير من الأغراض الصالحة، وهو تعليم لما هو الأنسب بالدين والدنيا من انقسام الناس قسمين‏:‏ قسماً للجهاد، وقسماً للنفقة وحفظ الأموال والأولاد، كل ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام والعمل بما يرضاه، ولا يخفى ذلك على المخلص، ولعل التعبير بالفعل الماضي في قوله مسبباً عما قبله‏:‏ ‏{‏فلولا نفر‏}‏ ليفهم تبكيت من قصد تبكيته من المتخلفين في جميع هذه السورة بأنه كان عليهم أن ينفر مع النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏من كل فرقة‏}‏ أي ناس كثير يسهل افتراقهم، قالوا‏:‏ وهو اسم يقع على ثلاثة ‏{‏منهم طائفة‏}‏ أي ناس لا ينفكون حافين بالنبي صلى الله عليه وسلم يلزمونه، قيل‏:‏ والطائفة واحد واثنان، فالآية حجة على قبول خبر الواحد ووجوب العمل به، وكأنه عبر به للإشارة إلى الحث على كثرة النافرين كما هو أصل مدلولها الأغلب فيه ‏{‏ليتفقهوا‏}‏ أي ليكلف النافرون أنفسهم الفهم منه صلى الله عليه وسلم شيئاً فشيئاً ‏{‏في الدين‏}‏ أي بما يسمعونه من أقواله ويرونه من جميل أفعاله ويصل إلى قلوبهم من مستنير أحواله، وهذا غاية الشرف للعلم حيث جعل غاية الملازمة له صلى الله عليه وسلم للجهاد، هذا إن كان هو صلى الله عليه وسلم النافر في تلك الغزاة، وإن كان غيره كان ضمير ‏{‏يتفقهوا‏}‏ للباقين معه صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما كان من العلم بشارة ومنه نذارة، وكان الإنسان- لما فيه من النقصان- أحوج شيء إلى النذارة، خصها بالذكر فقال عطفاً على نحو‏:‏ ليخافوا في أنفسهم فيعملوا في خلاصها‏:‏ ‏{‏ولينذروا قومهم‏}‏ أي يحذروهم ما أمامهم من المخاوف إن فرطوا في جانب التقوى ‏{‏إذا رجعوا إليهم‏}‏ أي ما أنذرهموه الرسول صلى الله عليه وسلم ويبشروهم بما بشرهم به؛ ثم بين غاية العلم مشيراً إلى أن من جعل له غاية غيرها من ترفع أو افتخار فقد ضل ضلالاً كبيراً، فقال موجباً لقبول خبر من بلغهم‏:‏ ‏{‏لعلهم‏}‏ أي كلهم ‏{‏يحذرون*‏}‏ أي ليكون حالهم حال أهل الخوف من الله بما حصلوا من الفقه لأنه أصل كل خير، به تنجلي القلوب فَتقبل على الخير وتعرض عن الشر، فإن الحذر تجنب الشيء لما فيه من الضرر، والمراد بالفقه هنا حفظ الكتاب والسنة وفهم معانيهما من الأصول والفروع والآداب والفضائل، وقال الرماني‏:‏ الفقه فهم موجبات المعاني المضمنة بها من غير تصريح بالدلالة عليها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 125‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏124‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

ولما علمت المقاصد وتهيأت القلوب لقبول الفوائد، وأمر بالإنذار بالفقه، وكان من الناس من لا يرجع إلا بشديد البأس، أقبل على الكل مخاطباً لهم بأدنى أسنان القلوب ليتوجه إلى الأدنى ويتناول الأعلى منه من باب الأولى فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي ادَّعوا بألسنتهم الإيمان ‏{‏قاتلوا‏}‏ أي تصديقاً لدعواكم ذلك ‏{‏الذين يلونكم‏}‏ أي يقربون منكم ‏{‏من الكفار‏}‏ فالذين يلونهم إن لم تروا غيره أصلح لمعنى يعرض لما في ذلك من حسن الترتيب ومقتضى الحكمة ولأن الجهاد معروف وإحسان، والأقربون أولى بالمعروف، ولتبعدوا العدو عن بلادكم فيكثر صلاحهم ويقل فسادكم وتكونوا قد جمعتم بالتفقه والقتال بين الجهادين‏:‏ جهاد الحجة وجهاد السيف مع الاحتراس بهذا الترتيب من أن يبقى وراءكم إذا قاتلتم من تخشون كيده‏.‏

ولما كانت الملاينة أولى بالمسالمة، والمخاشنة أولى بالمصارمة، قال‏:‏ ‏{‏وليجدوا‏}‏ من الوجدان ‏{‏فيكم غلظة‏}‏ أي شدة وحمية لأن ذلك أهيب في صدورهم‏.‏ وأكف عن فجورهم، وحقيقة الغلطة في الأجسام، استعيرت هنا للشدة في الحرب، وهي تجمع الجراءة والصبر على القتال وشدة العدواة، فإذا فعلوا ذلك كانوا جامعين بين جهاد الحجة والسيف كما قيل‏:‏

من لا يعدله القرآن كان له *** من الصغار وبيض الهند تعديل

نبه على ذلك أبو حيان‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ وليكن كل ذلك مع التقوى لا بسبب مال ولا جاه فإنها ملاك الأمر كله، قال منبهاً على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏واعلموا أن الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏مع المتقين*‏}‏ فلا تخافوا أن يؤدي شيء من مصاحبتها إلى وهن فإن العبرة بمن كان الله معه‏.‏

ولما ذكر هذه السورة أي الطائفة الحاضة بصيغة «لولا» على النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الآمرة بجهاد الكفار والغلظة عليهم، وكان لا يحمل على ذلك إلا ما أشار إليه ختم الآية السالفة من التقوى بتجديد الإيمان كلما نزل شيء من القرآن، وكان قد ذكر سبحانه المخالفين لأمر الجهاد بالتخلف دون أمر الإيمان حين قال ‏{‏وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين‏}‏ التفت إلى ذلك ليذكر القسم الآخر وهو القاعد عن الإيمان فقال‏:‏ ‏{‏وإذا‏}‏ وأكد بزيادة النافي تنبيهاً على فضل الإيمان فقال‏:‏ ‏{‏ما‏}‏‏.‏

ولما كان المنكي لهم مطلق النزول، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏أنزلت سورة‏}‏ أي قطعة من القرآن، أي في معنى من المعاني ‏{‏فمنهم‏}‏ أي من المنزل إليهم ‏{‏من يقول‏}‏ أي إنكاراً واستهزاء، وهم المنافقون ‏{‏أيكم‏}‏ أي أيها العصابة المنافقة ‏{‏زادته هذه إيماناً‏}‏ إيهاماً لأنهم متصفون بأصل الإيمان، لأن الزيادة ضم الشيء إلى غيره مما يشاركه في صفته، هذا ما يظهرون تستراً، وأما حقيقة حالهم عند أمثالهم فالاستهزاء استبعاداً لكونها تزيد أحداً في حاله شيئاً، وسبب شكهم واستفهامهم أن سامعيها انقسموا إلى قسمين‏:‏ مؤمنين ومنافقين، ولذلك أجاب تعالى بقوله مسبباً عن إنزالها‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا‏}‏ أي أوقعوا الإيمان حقيقة لصحة أمزجة قلوبهم ‏{‏فزادتهم‏}‏ أي تلك السورة ‏{‏إيماناً‏}‏ أي بإيمانهم بها إلى ما كان لهم من الإيمان بغيرها وبتدبرها ورقة القلوب بها وفهم ما فيها من المعارف الموجبة لطمأنينة القلوب وثلج الصدور‏.‏

ولما كان المراد بالإيمان الحقيقة وكانت الزيادة مفهمة لمزيد عليه، استغنى عن أن يقول‏:‏ إلى إيمانهم، لذلك ولدلالة ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ عليه ‏{‏وهم يستبشرون*‏}‏ أي يحصل لهم البشر بما زادتهم من الخير الباقي الذي لا يعدله شيء ‏{‏وأما الذين‏}‏ وبين أن أشرف ما فيهم مسكن الآفة فقال‏:‏ ‏{‏في قلوبهم مرض‏}‏ فمنعهم الإيمان وأثبت لهم الكفران فلم يؤمنوا‏.‏

ولما كان المراد بالمرض الفساد المعنوي المؤدي إلى خبث العقيدة، عبر عنه بالرجس فقال‏:‏ ‏{‏فزادتهم رجساً‏}‏ أي اضطراباً موجباً للشك، وزاد الأمر بياناً بأن المراد المجاز بقوله‏:‏ ‏{‏إلى رجسهم‏}‏ أي شكهم الذي كان في غيرها ‏{‏وماتوا‏}‏ أي واستمر بهم ذلك لتمكنه عندهم إلى أن ماتوا ‏{‏وهم كافرون*‏}‏ أي عريقون في الكفر، وسمي الشك في الدين مرضاً لأنه فساد في الروح يحتاج إلى علاج كفساد البدن في الاحتياج، ومرض القلب أعضل، وعلاجه أعسر وأشكل، ودواءه أعز وأطباؤه أقل‏.‏ ولما زاد الكفار بالسورة رجساً من أجل كفرهم بها، كانت كأنها هي التي زادتهم، وحسن وصفها بذلك كما حسن‏:‏ كفى بالسلامة داء، وكما قال الشاعر‏:‏

أرى بصري قد رابني بعد نصحه *** وحسبك داء أن تصح وتسلما

قاله الرماني، فالمؤمنون يخبرون عن زيادة إيمانهم وهؤلاء يخبرون عن عدمه في وجدانهم، فهذا موجب شكهم وتماديهم في غيهم وإفكهم، ولو أنهم رجعوا إلى حاكم العقل لأزال شكهم وعرفهم صدق المؤمنين بالفرق بين حالتيهم، فإن ظهور الثمرات مزيل للشبهات، والآية من الاحتباك‏:‏ إثبات الإيمان أولاً دليل على حذف ضده ثانياً، وإثبات المرض ثانياً دليل على حذف الصحة أولاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 129‏]‏

‏{‏أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏127‏)‏ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏128‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏129‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير تسبيباً عما جزم به من الحكم بعراقتهم في الرجس وازديادهم منه‏:‏ أفلا يرون إلى تماديهم في النفاق وثباتهم عليه‏؟‏ عطف عليه تقريرهم بعذاب الدنيا والإنكار عليهم في قوله‏:‏ ‏{‏أولا يرون‏}‏ أي المنافقون، قال الرماني‏:‏ والرؤية هنا قلبية لأن رؤية العين لا تدخل على الجملة لأن الشيء لا يرى من وجوه مختلفة ‏{‏أنهم‏}‏ أي المنافقين؛ ولما كان مطلق وقوع الفتنة من العذاب، بنى للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏يفتنون‏}‏ أي يخالطون من حوادث الزمان ونوازل الحدثان بما يضطرهم إلى بيان أخلاقهم بإظهار سرائرهم في نفاقهم ‏{‏في كل عام‏}‏ أي وإن كان الناس أخصب ما يكونون وأرفعه عيشاً ‏{‏مرة أو مرتين‏}‏ فيفضحون بذلك، وذلك موجب للتوبة للعلم بأن من علم سرائرهم- التي هم مجتهدون في إخفائها- عالم بكل شيء قادر على كل مقدور، فهو جدير بأن تمتثل أوامره وتخشى زواجره‏.‏

ولما كان عدم توبتهم مع فتنتهم على هذا الوجه مستبعداً، أشار إليه بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم لا يتوبون‏}‏ أي لا يجددون توبة ‏{‏ولا هم‏}‏ أي بضمائرهم ‏{‏يذكرون*‏}‏ أي أدنى تذكر بما أشار إليه الإدغام، فلولا أنه حصلت لهم زيادة في الرجس لأوشك تكرار الفتنة أن يوهي رجسهم إلى أن يزيله ولكن كلما أوهى شيئاً خلقه مثله أو أكثر بسبب الزيادات المترتبة على وجود نجوم القرآن، والتذكر طلب الذكر للمعنى بالكفر فيه، فالآية ذامة لهم على عدم التوبة بإصابة المصائب لعدم تذكر أنه سبحانه ما أصابهم بها إلا بذنوبهم ‏{‏ويعفو عن كثير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 34‏]‏ كما أن أحدهم لا يعاقب فتاة إلا بذنب وما لم يتب فهو يوالي عقابه‏.‏

ولما ذكر ما يحدث منهم من القول استهزاء، أتبعه تأكيداً لزيادة كفرهم وتوضيحاً لتصويره ما يحدث من فعلهم استهزاء من الإيمان والتغامز بالعيون فقال ‏{‏وإذا‏}‏ وأكد بالنافي فقال‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ ولما كان الغرض نفس الإنزال لا تعيين المنزل، بني للمفعول قوله ‏{‏أُنزلت سورة‏}‏ أي طائفة من القران ‏{‏نظر بعضهم‏}‏ أي المنافقين ‏{‏إلى بعض‏}‏ أي متغامزين سخرية واستهزاء قائلين‏:‏ ‏{‏هل يراكم‏}‏ وأكدوا العموم فقالوا‏:‏ ‏{‏من أحد‏}‏ أي من المؤمنين إن انصرفتم، فإن يشق علينا سماع مثل هذا، ويشق علينا أن يطلع المؤمنون على هذا السر منا‏.‏

ولما كان انصرافهم عن مثل هذا المقام مستهجناً، أشار إلى شدة قبحه بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم انصرفوا‏}‏ أي إن لم يكن أحد يراهم، وإن رآهم أحد من المؤمنين تجشموا المشقة وثبتوا؛ ولما كانوا مستحقين لكل سوء، أخبر عنهم في أسلوب الدعاء بقوله‏:‏ ‏{‏صرف الله‏}‏ أي الذي له الغنى المطلق والكمال كله ‏{‏قلوبهم‏}‏ أي عن الإيمان؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏بأنهم قوم‏}‏ وإن كانوا ذوي قوة على ما يحاولونه فإنهم ‏{‏لا يفقهون*‏}‏ أي قلوبهم مجبولة على عدم الفهم لما بها من الغلظة، وهذا دليل على ختام الآية قبلها، وهاتان الآيتان المختتمتان- ب ‏{‏لا يفقهون‏}‏ التاليتان للأمر بالجهاد في قوله ‏{‏قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‏}‏ الموازي- ‏{‏انفروا خفافاً وثقالاً‏}‏ الآية- قد احتوتا مع وجازتهما على حاصل أوصاف المنافقين التالية لآية ‏{‏انفروا‏}‏ المختتم ما هو العام منها في أهل الحاضرة في قوله ‏{‏استأذنك أولوا الطول منهم‏}‏ ب ‏{‏يفقهون‏}‏ ثم عند إعادة ذكرهم ب ‏{‏لا يعلمون‏}‏ وتصويب هاتين الآيتين إلى أهل الحاضرة ظاهر لكونهم ممن يحضر نزول الذكر كثيراً مع احتمالهما للعموم، والختم هنا ب ‏{‏لا يفقهون‏}‏ أنسب لأن المقام- وهو النظر في زيادة الإيمان بالنسبة إليهم- يقتضي فكراً وتأملاً وإن كان بالنظر إلى المؤمنين في غاية الوضوح‏.‏

ولما أمر صلى الله عليه وسلم أن يبلغ هذه الأشياء الشاقة جداً من أمر هذه السورة، وكان من المعلوم أنه لا يحمل ذلك إلا من وفقه الله تعالى، وأما المنافقون فيكرهون ذلك وكان انصرافهم دالاً على الكراهة، عرفهم أن الأمر كان يقتضي توفر دواعيهم على محبة هذا الداعي لهم المقتضي لملازمته والبعد عما يفعلونه به من الانصراف عنه، وأن أحواله الداعية لهم إلى محبته أعظم من أحوال آبائهم التي أوجبت لهم منهم من المحبة وعليهم من الحقوق ما هم مفتخرون بالتلبس به والمغالاة فيه، وأن كل ما يحصل بهذا القرآن من العز والشرف في الدنيا فهو لكل من آمن به فقال‏:‏ ‏{‏لقد جاءكم رسول‏}‏‏.‏

ولما كان الرسول يجب إكرامه والوقوف في خدمته لأجل مرسله ولو تجرد عن غير ذلك الوصف، شرع يذكر لهم من أوصافه ما يقتضي لهم مزيد إكرامه فقال‏:‏ ‏{‏من أنفسكم‏}‏ أي ترجعون معه إلى نفس واحدة بأنكم لأب قريب، وذلك أقرب إلى الألفة وأسرع إلى فهم الحجة وأبعد من المحل واللجاجة ‏{‏عزيز‏}‏ أي شديد جداً ‏{‏عليه ما عنتم‏}‏ والعزة‏:‏ امتناع الشيء بما يتعذر معه ما يحاول منه بالقدرة أو بالقلة أو بالصعوبة، والعنت‏:‏ لحاق الأذى الذي يضيق الصدر به ولا يهتدي للمخرج منه ‏{‏حريص‏}‏ أي بليغ الحرص ‏{‏عليكم‏}‏ أي على نفعكم، والحرص‏:‏ شدة طلب الشيء على الاجتهاد فيه، وقدم الجار لإفادة الاختصاص فقال‏:‏ ‏{‏بالمؤمنين‏}‏ أي العريقين في هذا الوصف كافة خاصة، ولما ذكر الوصف المقتضي للرسوخ، قدم ما يقتضي العطف على من يتسبب له بما يقتضي الوصلة فقال‏:‏ ‏{‏رءوف‏}‏ أي شديد الرحمة لمن له منه عاطفة وصلة لما تقدم من معنى الرأفة قريباً‏.‏

ولما كان المؤمن يطلق مجازاً على من يمكن منه الإيمان فوصلته الآن ليست بالفعل بل الإمكان، قال تعميماً لرحمته صلى الله عليه وسلم كما هو اللائق بشريف منصبه وعظيم خلقه‏:‏ ‏{‏رحيم*‏}‏ ولأجل مثل هذه الأغراض النفسية رتب سبحانه هذين الوصفين هكذا، ولكن المعاني المراده تارة يظهرها الله تعالى لعبده منحة له وإكراماً، وتارة يخفيها إظهاراً لعجزه ونقصانه ثم يظهرها له في وقت آخر إن صدق في التضرع وإظهار الافتقار والتذلل وأدام الطلب، أو لغيره ممن هو أقل منه علماً وأضعف نظراً وفهماً، وإذا تأملت كتابي هذا ظهر لك أن كثيراً من الآيات فسرها على غير المراد منها قطعاً أكابر العلماء، فعلى الأنسان- إذا خفي عليه أمر- أن يقول‏:‏ لا أعلم، ولا يظن أنه رتب شيء من هذا الكتاب العزيز لأجل الفواصل، فلذلك أمر لا يليق بكلام الله تعالى، وقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم السجع، لأن الساجع يكونُ محطَ نظره الألفاظ، فيدير المعاني عليها ويتبعها إياها، فربما عجز اللفظ عن توفية المعنى؛ روى البخاري في الطب وغيره من صحيحه ومسلم في الديات وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه

«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة، فقال الذي قضى عليه‏:‏ كيف أغرم من لاشرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك بطل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما هذا من إخوان الكهان» من أجل سجعه الذي سجع، وفي رواية‏:‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سجع كسجع الأعراب» وذلك- والله أعلم- أنه لو كان نظره إلى المعنى وتصحيحه لأغنى عن هذا السجع أن يقال‏:‏ كيف أغرم من لاحياة له، ولوقصد السجع وتهذيب المعنى لأتى مما يدل على نفي الحياة التي جعلها محط أمره فإن ما أتى به لا يستلزم نفيها، ولو تقيد بالصحة لاغتنى بنفي النطق عن نفي الاستهلال، فصح بهذا أنه دائر مع تحسين اللفظ صح المعنى أم لا، وينطبع في عقل عاقل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يذم السجع وهو يأتي به ويقصده في القرآن أو في السنة، ولو كان ذلك لأسرعوا الرد عليه، وذكر أصحاب فتوح البلاد في فتح مكران من بلاد فارس أن الحكم بن عمرو لما فتحها أرسل بالأخماس مع صحار العبدي، فلما قدم على عمر رضي الله عنه سأله عن مكران وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجيء منه فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ أرض سهلها جبل، وماءها وشل وثمرها دقل، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شر منها؛ فقال، أسجاع أنت أم مخبر‏؟‏ فقال‏:‏ لا بل مخبر، قال‏:‏ لاوالله‏!‏ لا يغزوها جيش لي ما أطعت‏.‏

فقد جعل الفاروق السجع قسيماً للخير فدل على أن التقيد به عيب لإخلاله بالفائدة أو بتمام الفائدة، ولعله إنما جوز أن يكون مخبراً لنه انفك عن السجع في آخر كلامه وكرر لفظ «قليل» فكان ما ظنه، لأنه لو أراد السجع لأمكنه أن يقول والكثير بها ذليل، والقليل بها ضائع كليل، وما وراءها شر منها بأقوم قيل؛ وقد نفى سبحانه عن هذا القرآن المجيد تصويب النظر إلى السجع كما نفى عنه الشعر فإنه تعالى قال ‏{‏وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 41، 42‏]‏ فكما أن قول الشاعر إتيانه بالكلام موزوناً، فكذلك قول الكاهن إتيانه بالكلام مسجوعاً والقرآن ليس من هذا ولا من هذا‏.‏ وإن وقع فيه كل من الأمرين فغير مقصود إليه ولا معول عليه، بل لكون المعنى انتظم به على اتم الوجوه فيؤتي به لذلك، ثم تبين أنه غير مقصود بالانفكاك عنه في كثير من الأماكن بقرينة ليس لها مجانس في اللفظ لتمام المعاني المرادة عندها فيعلم قطعاً أن ذلك غير مقصود أصلاً لأن مثل ذلك لا يرضى به أقل الساجعين، بل يراه عجزاً وضيقاً عن تكميل المشاكلة ونقصاً- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ومما يوجب لك القطع بأن ترتيب هذين الاسمين الشريفين هكذا لغير مراعاة الفواصل قوله تعالى في سورة الحديد ‏{‏وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 27‏]‏ وسيأتي إن شاء الله في سورة طه عن الفخر الرازي والقاضي أبي بكر الباقلاني مَنَع النظر إلى السجع في الكتاب العزيز نقلاً عن جميع الأشاعرة، وإذا تأملت الفواصل في الإتيان بها تارة بكثرة وتارة بقلة، وتارة تترك بالكلية ويؤتى في كل آية بفاصلة لا توافق الأخرى، علمت أن هذا المذهب هو الصواب ولا سيما آخر سورة ‏{‏اقرأ‏}‏ وإذا تأملت كتب أهل العدد أتقنت علم هذا المستند، وإذا تأملت ما قلته في هذا النحو من كتابي مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور لم يبق عندك شك في شيء من هذا، فإياك ان تجنح لهذا القول فتكون قد وقعت في أمر عظيم وأنت لا تشعر، وأورد سبحانه هذه الآية إيراد المخاطب المتلطف المزيل لما عندهم من الريب بالقسم، فكأنه قال‏:‏ ما لكم تنصرفون عن حضرته الشماء وشمائله العلى‏!‏ والله لقد جاءكم- إلى آخره، ثم أقبل عليه مسلياً له مقابلاً لإعراضهم إن أعراضوا بالإعراض عنهم والبراءة منهم ملتفتاً إلى السورة الآمر بالبراءة من كل مخالف، قائلاً مسبباً عن النصيحة بهذه الآية التي لا شك عاقل في مضمونها‏:‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي اجتهدوا في تكليف فطرهم الأولى أو ولوا مدبرين عنك بالانصراف المذكور أو غيره بعد النصيحة لهم بهذه الآية ‏{‏فقل‏}‏ اي استعانة بالله تفويضاً إليه ‏{‏حسبي‏}‏ أي كافي؛ قال الرماني‏:‏ وهو من الحساب لأنه جل ثناه يعطى بحسب الكفاية التي تعني عن غيره، ويزيد من نعمته مالا يبلغ إلى حد ونهاية إذ نعمه دائمة ومننه متظاهر ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له، وإنما كان كافياً لأنه ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ فلا مكافئ له فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه‏.‏

ولما قام الدليل على أنه لا كفؤ له، وجب قصر الرغائب عليه فقال‏:‏ ‏{‏عليه‏}‏ أي وحده ‏{‏توكلت‏}‏ لأن أمره نافذ في كل شيء ‏{‏وهو رب‏}‏ اي مالك ومخترع ومدبر؛ ولما كان في سياق القهر والكبرياء بالبراءة من الكفار والكفاية للأبرار، كان المقام بالعظمة أنسب كآية النمل فقال‏:‏ ‏{‏العرش العظيم*‏}‏ أي المحيط بجميع الأجسام الحاوي لسائر الأجرام الذي ثبت بآية الكرسي وغيرها أن ربه أعظم منه لأن عظمته على الأطلاق فلا شيء إلا هو في قبضته وداخل في دائرة مملكته، وإذا كان كافي فأنا بريء ممن تولى عني وبعد مني كائناً من كان في كل زمان ومكان فقد عانق آخر السورة أولها وصافح منتهاها مبتدأها وتأكد ما فهمته من سر الالتفات في ‏{‏فسيحوا‏}‏ وفي ‏{‏فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله‏}‏ والله تعالى أعلم‏.‏